هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
المواضيع الأخيرة
» رؤيا عن المهدي
 كليلة ودمنة Timenالخميس أبريل 19, 2018 9:33 pm من طرف صاحب سليمان

» كثُر ادعاء المهدوية ولا يمكن ان يكون بناءا على رؤى منامية | كثرة الرؤى إشارة بينة أن هذا زمان خروجه
 كليلة ودمنة Timenالخميس أبريل 19, 2018 9:31 pm من طرف صاحب سليمان

» صفة وجود يأجوج ومأجوج من القرآن هل هم كما يًتصور "مقفولين أو تحت الأرض"؟ أم لا؟ وهل هناك مبرر لهذا الاعتقاد؟
 كليلة ودمنة Timenالخميس أبريل 19, 2018 9:26 pm من طرف صاحب سليمان

»  ظهر [ذو السويقتين] هَـادِمِ الـكَـعْـبَـةِ الرجل الأسود من الحبشة ومخرج كنوزها | من السودان وباسم سليمان
 كليلة ودمنة Timenالخميس أبريل 19, 2018 9:24 pm من طرف صاحب سليمان

» المهدي المنتظر هو المسيح المنتظر هو عيسى بن مريم في ميلاده الثاني هو مكلم الناس,هو إمام الزمان وقطبه
 كليلة ودمنة Timenالخميس أبريل 19, 2018 9:20 pm من طرف صاحب سليمان

» سيقول أكثرهم ما سمعنا بخبر المسيح, يقولون لو أنكم أصررتم وأوضحتم |ظهر المهدي المنتظر
 كليلة ودمنة Timenالخميس أبريل 19, 2018 9:17 pm من طرف صاحب سليمان

» عاجل ,,,,مطلوب مشرفين ومدير لهذا المنتدى
 كليلة ودمنة Timenالإثنين سبتمبر 25, 2017 12:48 pm من طرف هاني

»  رحله بلا عوده
 كليلة ودمنة Timenالجمعة مارس 17, 2017 7:57 pm من طرف أبو البقاع

» سؤال مهم لمن يعرف التاريخ البشري
 كليلة ودمنة Timenالجمعة مارس 17, 2017 7:53 pm من طرف أبو البقاع

بحـث
 
 

نتائج البحث
 

 


Rechercher بحث متقدم

المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 5 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 5 زائر

لا أحد

أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 134 بتاريخ الثلاثاء أغسطس 01, 2017 2:11 am
دخول

لقد نسيت كلمة السر

تدفق ال RSS


Yahoo! 
MSN 
AOL 
Netvibes 
Bloglines 



كليلة ودمنة

5 مشترك

اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty كليلة ودمنة

مُساهمة من طرف الحكواتي الأحد مارس 22, 2015 1:10 am

مؤلف وكاتب من البصرة تقول بعض المصادر أن والده كان من أصل فارسي مجوسي لقب أبوه بالمقفع لأنه اتهم بالاختلاس لمال الخراج، فضرب-الحجاج- على يده فتشنجت،قام المنصور بقتل ابن المقفع لأسباب سياسية، وكان الوالي يكرهه فأمر بقتله.رافق الأزمات السياسية في زمن الدولتين الأموية والعباسية.

درس الفارسية وتعلّم العربية في كتب الأدباء واشترك في سوق المربد. نقل من البهلوية إلى العربية كليلة ودمنة. وله في الكتب المنقولة التي وصلت إلينا الأدب الكبير والصغير والأدب الكبير فيه كلام عن السلطان وعلاقته بالسلطان وعلاقته بالرعية وعلاقة الرعية به والأدب الصغير حول تهذيب النفس وترويضها على الأعمال الصالحة من أعماله مقدمة كليلة ودمنة.

أما بعد فهذه مقدمة نذكر فيها السبب الذي من أجله عمل بيدبا الفيلسوف الهندي رأس البراهمة لدبشليم ملك الهند كتابه الذي سماه كليلة ودمنة وجعله على ألسن البهائم والطير صيانة لغرضه الأقصى فيه من العوامّ، وضنّاً بما ضمنه عن الطّغام، وتنزيهاً للحكمة وفنونها ومحاسنها وعيونها، إذ هي للفيلسوف مندوحة، ولخاطره مفتوحتة، ولمحبيها تثقيف ولطالبيها تشريف، ونذكر السبب الذي من أجله أنفذ كسرى أنو شروان ملك الفرس برزويه رأس الأطباء إلى بلاد الهند لأجل كتاب كليلة ودمنة وما كان من تلطف برزويه عند دخوله إلى الهند حتى وقع على الرجل الذي استنسخه له سراً من خزانة الملك ليلاً مع ما وجد من كتب علماء الهند، ويجيئه بالكتاب مع الشطرنج التامة التي كانت عشرة في عشرة. ونذكر مقدار فضيلته ونخص أهل اقتنائه على الالتفات إلى دراسته والمداومة على فراسته وفيما ضمّن من فوائده ومنافعه ويرى أنها أفضل من كل لذة صرفت إليها همته والنظر إلى باطن كلامه وأنه إن لم يكن كذلك لم يحصل على الغاية منه. ونذكر حضور برزويه وقراءة الكتاب جهراً والسبب الذي من أجله وضع بزرجمهر ابن البختكان مقدمة في أصل الكتاب وهو باب مفردٌ سماه باب برزويه المتطبب، ويذكر فيه شأن برزويه من أول أمره وأوان مولده إلى أن بلغ التأديب ورغب في التدين وأحب الحكمة وتفنن في أنانها وجعله قبل باب الأسد والثور الذي هو أول الكتاب.
الحكواتي
الحكواتي
عضو جديد
عضو جديد

عدد المساهمات : 1
نقاط : 334003
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty رد: كليلة ودمنة

مُساهمة من طرف كتاب الأحد مارس 22, 2015 1:12 am

قال علي بن الشاه الفارسي: كان السبب الذي من أجله وضع بيدبا الفيلسوف الهندي لدبشليم ملك الهند كتاب كليلة ودمنة أن الإسكندر ذا القرنين الرومي لما انتصر على الملوك الذين كانوا بناحية المغرب سار يريد ملوك المشرق من فرس وغيرهم. فلم يزل يحارب من نازعه ويواقع من واقعه ويسالم من وادعه من ملوك الفرس وهم الطبقة الأولى حتى ظهر عليهم وقهر من ناوأه وتغلب على من عاداه فتفرّقوا طرائق، وتمزقوا خرائق، فتوجه نحو بلاد الصين فبدأ بملك الهند ليدعوه إلى طاعته والدخول في ملته وولايته. وكان على الهند في ذلك الزمان ملك ذو سطوة وبأس ومنعة ومراس يقال له فُورَك. فلما بلغه إقبال ذي القرنين نحوه تأهب في التألب عليه، وجمع له العدة في أسرع مدة من الفيلة المفرزة للحروب، والسباع المضرّاة للوثوب مع الخيل المسوّمة، والرماح المقوّمة، والسيوف القواطع، والحراب اللوامع.

فلما قرب ذو القرنين من فورك الهندي وبلغه ما قد أعدّ له من الخيل، التي كأنها قطع الليل، مما لم يلقه بمثله أحد ممن كان يقصده من الملوك الذي كانوا في الأقاليم تخوّف من تقصير يقع به إن عجّل المبارزة.

وكان ذو القرنين رجلاً ذا حيل ومكايد مع حسن تدبير وتجربة فرأى بعد إعمال الحيلة التأهب والترفق. فاحتفر خندقاً على عسكره وأقام بمكانه لاستنباط الحيلة والتدبير في أمره وكيف ينبغي الإيقاع بهذا الملك. فاستدعى بالمنجمين وأمرهم باختيار يوم ووقت تكون له فيه سعادة لملاقاة ملك الهند والنصرة عليه. فاشتغلوا بذلك. وكان ذو القرنين لا يمر بمدينة إلا أخذ المشهورين من صناعها بالحذق من كل صنف. فنتجت له همته ودلته فطنته أن يتقدم إلى الصناع الذين معه بأن يصنعوا له خيلاً من نحاس مجوفة عليها تماثيل من الرجال على بكرٍ تجري به وإذا دُفعت مرت سراعا. وأمر إذا فرغوا منها أن تحشى أجوافها بالنفط والكبريت وأن يلبس الفارس آلة الحرب ويقدم ذلك أمام الصف في القلب وقت ما يلتقي الجمعان لتضرم فيها النيران. فإن الفيلة إذا ألقت خراطيمها على الفرسان وهي حامية جلفت. وأوعز إلى الصّنّاع بالتشمير والفراغ منها. فجدوا في ذلك وعجلوا.

وقرب أيضا اختيار المنجمين لليوم. فأعاد ذو القرنين رسله إلى فورَك ملك الهند يدعوه إلى طاعته والإذعان لدولته. فأجاب جواب مُصِرّ على مخالفته مقيم على محاربته.

فلما رأى ذو القرنين عزيمته سار إليه بأُهبتِه وقدّم فورك الفيلة أمامه ودفعت الرجال تلك الخيل النحاس وعليها التماثيل كالفرسان فأقبلت الفيلة نحوها وألقت خراطيمها عليها. فلما أحست بالحرارة ألقت من كان عليها من الرجالة المقاتلة وداستهم تحت أرجلها ومضت مهرولة هاربة لا تلوي على شيء ولا تمر بأحد إلا وطئته. وتقطّع فورك وجمْعه وتبعهم أصحاب الإسكندر وأثخنوا فيهم الجراح. وصاح الإسكندر: يا ملك الهند ابرز إليّ وابق على عدتك وعيالك ولا تحملهم على الفناء. فإنه ليس من السياسة أن يرمي الملك عدته في المهالك المتلفة، والمواضع المجحفة، بل يقيهم بماله ويدفع عنهم بنفسه. فابرز إليّ ودعِ الجند فأينا قهر صاحبه فهو الأسعد.

فلما سمع فورك من ذي القرنين هذا الكلام دعته نفسه إلى ملاقاته طمعاً فيه فسارع إليه وظن ذلك فرصة. فبرز إليه الإسكندر فتجالدا على ظهرَيْ فرسهما ساعات من النهار ليس يلقى أحدهما من صاحبه فرصة ولم يزالا يتعاركان. فلما أعيا الإسكندر أمر فورك ولم يجد له فرصة ولا حيلة أوقع بعسكره صيحة عظيمة ارتجّت لها الأرض والعساكر. فالتفت فورك عندما سمع الزعفة وظنها مكيدة وقعت في عسكره فعاجله ذو القرنين بضربة أمالته عن سرجه وأتبعها بأخرى فوقع إلى الأرض. فلما رأى الجند ما نزل بهم وما صار إليه ملكهم حملوا على الإسكندر فقاتلوه قتالاً شديداً أحبوا معه الموت.

فوعدهم من نفسه بالإحسان ومنحه الله أكتافهم. فاستولى على بلادهم وملّك عليهم رجلاً من ثقاته وأقام بالهند حتى استوثق له ما يريده من أمورهم واتفاق كلمتهم. ثم انصرف من الهند وخلّف ذلك الرجل عليهم ومضى متوجهاً نحو ما قصد له.

فلما بعد ذو القرنين عن الهند بجيوشه تغير الهنود عما كانوا عليه من طاعة الرجل الذي خلفه عليهم وقالوا: ليس يصلح للسياسة ولا ترضى الخاصة ولا العامة أن يُملّكوا عليهم رجلا ليس منهم ولا من أهل بيوتهم. فإنه لا يزال يستسفلهم. ثم أجمعوا على أن يُملّكوا عليهم رجلا من أولاد ملوكهم فملّكوا عليهم ملكاً يقال له دبشليم وخلعوا الرجل الذي ملّكه عليهم الإسكندر.

فلما استقر لهذا الملك واستوثق له الأمر طغى وعتى وتجبر وتكبر وجعل يغزو من حوله من الملوك. وكان مع ذلك مظفّراً منصوراً فهابته الملوك وخافته الرعيّة. فلما رأى ما هو عليه من الملك والسطوة عبث بالرعية واستصغر أمرهم وأساء السيرة فيهم وكان لا يرتقي حاله إلا ازداد عتواً ومكث على ذلك برهة من دهره.

وكان في زمانه رجل فيلسوف من البراهمة فاضل حكيم يعرف بفضله ويرجع إليه في قوله يقال له بيدبا الفيلسوف. فلما رأى ما عليه الملك من ظلم الرعية فكّر في وجه الحيلة في صرفه عما هو عليه وردّه إلى العدل والإنصاف، فجمع لذلك تلامذته وقال: هل تعلمون ما أريد أن أشاوركم فيه؟ قالوا: لا. قال: اعلموا أني أجلت الفكرة، وأطلت العبرة في دبشليم الملك وما هو عليه من الخروج عن العدل ولزوم الشرور ورداءة السيرة وسوء عشيرته مع الرعية. وإننا نروّض أنفسنا لمثل هذه الأمور إذا ظهرت من الملوك لنرُدّهم إلى فعل الخير ولزوم العدل. ومتى أغفلنا ذلك وأهملناه لزمنا من وقوع المكروه بنا وبلوغ المحذور إلينا ألمُ الجهّال وبلغ إليهم أننا كنا في أنفسهم أجهل منهم وفي عيونهم أقل منهم.

وليس الرأي عنديَ الجلاء عن المواطن وليس يسعنا في الحكمة أن نبقيَ الملك على ما هو عليه من رداءة السيرة وسوء الطريقة. ولا يمكننا مجاهدته بغير أسنتنا. ولو ذهبنا لنستعين عليه بغيرنا لما تهيّأت لنا معاودته ولو أحس منها مخالفتنا وإنكارنا لسوء سريرته لكان في ذلك بوارنا. وقد تعلمون أن مجاورة الكلب والسبع والحية والثور للوثوب على طِيبِ الوطن ونضارة العيش تغريرٌ بالنفس، وأن الفيلسوف لخليق أن تكون همته إلى ما يحفظ به نفسه من نوازل المكروه ولواحق المحذور ويدفع المَخوف لاجتلاب المحبوب. وقد كنت أسمع أن فيلسوفاً كتب إلى تلميذ له يقول له: إن المجاورة للرجال السوء والمصاحبة لهم كراكب البحر إن سَلِم من الغرق لن يسلم من الخوف. فإذا هو أورد نفسه موارد الهلكات ومصادر المَخوفات عُدّ من البهائم التي لا أنفس لها لأن الحيوان البهيميّ يقد خصّ في طبائعه بمعرفة ما يكتسب فيه النفع ويجتنب المكروه. وذلك أن الحيوانات لم تورد بأنفسها مورداً فيه مهلكها وأنها متى أشرفت على موردٍ مهلك لها مالت بطبائعها التي ركّبت فيها وتباعدت عنه شحّاً بأنفسها. وقد جمعتكم لهذا الأمر لأنكم أسرتي وموضع سرّي وبكم أعتضد وعليكم أعتمد. فإن الوحيد في نفسه والمنفرد برأيه حيثما كان هو ضائع ولا ناصر له.

والمثل في ذلك أن قنبرة اتخذت أدحية وعششت فيها وباضت على طريق الفيل. وكان للفيل مشربٌ يتردد إليه فمرّ ذات يوم على عادته ليَردَ مورده فوطئ عشّ القنبرة فهشم بيضها. فلما نظرت ما ساءها علمت أن ذلك من الفيل فطارت حتى وقعت على رأسه باكية. وقالت له: أيها الملك لم هشمت بيضي وقتلت أفراخي؟ أفعلت استضعافاً منك وقلّة لي واحتقاراً لأمري؟ فقال الفيل: هو الذي حملني على ذلك. فتركته وانصرفت إلى جماعة من الطيور فشكت إليهن ما نالها من الفيل. فقلن: وما عسى أن نبلغ منه ونحن طير ضعاف. فقالت للعقائق والغربان: أحب منكن أن تنصرفن معي إليه فتفقأن عينيه فإني بعد ذلك أحتال عليه بحيلة أخرى. فأجبنها إلى ذلك ومضين إلى الفيل فلم يزلن ينقرن عينيه حتى ذهبن بهما وبقي لا يهتدي إلى طريق مطعمه ومشربه إلا ما يقمّه من موضعه.

فلما عرفت القنبرة ذلك منه جاءت إلى غدير فيه ضفادع كثيرة فشكت إليهن ما نالها من الفيل فقلن لها: ما حيلتنا نحن في عظم الفيل وأنى نبلغ منه؟ فقالت: أريد أن توافين معي هويّةً تقرب منه فتنقنقن وتضججن بها فإنه إذا سمع أصواتكن لم يشك في الماء فيهوي فيها. فأجابتها الضفادع إلى ذلك واجتمعن في الهوية ونقنقن فسمع الفيل نقيقهنّ وقد أجهده العطش، فأقبل حتى وقع في الهوية فارتطم فيها. وجاءت القنبرة ترفرف على رأسه فتقول: أيها الطاغي المغترّ بقوّتك المحتقر لأمري، كيف رأيت عظيم حيلتي في صغر جثتي عند عظيم جثتك وصِغَر همّتك؟

فليُشر كل واحد منكم بما يسنح له من الرأي. فقالوا بأجمعهم: أيها الفيلسوف الفاضل الحكيم العادل، أنت المقدّم فيمنا والمفضّل علينا، فما عسى أن يكون مبلغ رأينا عند رأيك وفهمنا من فهمك ونحن نعلم أن السباحة في الماء مع التمساح تغرير والذنب فيه لمن دخل عليه في موضعه. والذي يستخرج السم من ناب الحية فيجرّبه على نفسه فليس الذنب للحية. ومن دخل على الأسد في غابته لم يأمن وثبته. وهذا الملك لم تؤدّبه التجارب ولم تقرّعه النوائب ولسنا نأمن عليك وعلى أنفسنا من سورته ومبادرته بسطوته متى لقيته بغير ما تحب مما هو عليه من همته.

فقال بيدبا: لعمري لقد قلتم فأحسنتم وأجبتم فأبلغتم لكن ذا الرأي الحازم لا بد له أن يشاور من هو دونه أو فوقه في المنزلة. والرأي الفرد لا يُكتفى به في الخاصة ولا ينتفع به في العامة. وقد صحّ عزمي على لقاء الملك دبشليم، وقد سمعت مقالتكم وبانت ليه نصيحتكم والإشفاق عليّ وعلى أنفسكم. غير أني قد رأيت رأياً وعزمت عزماً فستعرفون نتيجته عند لقاء الملك ومحاورتي إياه، فإذا اتصل بكم خروجي من عنده اجتمعوا إليّ.

ثم إن بيدبا إذن لأصحابه في الانصراف فقاموا بين يديه يدعون له بالسلامة، واختار يوماً للدخول على الملك دبشليم. حتى إذا كان اليوم المختار ألقى عليه مسوحه، وهو لباس البراهمة، وجاء فسأل عن صاحب إذن الملك فأُرشد إليه فأتاه وسلّم عليه وأعلمه أنه رجل قصد الملك في أمر له فيه النصيحة. فدخل فاستأذن له على الملك وكان في ذلك اليوم فارغاً غير مشغول. فأذن له فدخل ووقف بين يديه وكفّر وسجد ثم استوى قائماً وسكت فلم يتكلّم بشيء.

ففكر الملك دبشليم في سكوته وقال: إن هذا الفيلسوف لم يقصدنا إلا لأحد أمرين: إما ليلتمس منا شيئاً يصلح به حاله أو أمر لحقه فلم يكن له به طاقة ولا وجد عليه مستصرخاً فاعتمصم بنا كي يكون له أبلغ نكايةً وأشد عقوبة على ضده. ثم قال: وبعد فليس هذه الحالة من شرط الفيلسوف لأنه وإن كانت الملوك لها فضل في مملكتها فإن الحكماء لهم فضل في حكمتهم أعظم من الملوك، لأن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم وليس الملوك بأغنياء عن الحكماء بالمال. وقد وجدت العقل والحياء أحق متآلفين لا يفترقان. ومتى فُقِد أحدهما لم يوجد الآخر، كالمتصادقين من الناس وغيرهم إن عَدِم أحدهما صاحبه لم تطب نفس الآخر بالبقاء بعده تأسفاً عليه. ومن لم يستحي من الحكماء ويكرمهم ويعرف فضلهم ويصرفهم عن مواقف الذّلة وينزّههم عن المواطن الرّذلة كان ممن حرم عقله وخسر حياته وظلم الحكماء في حقوقهم وعدّ من الجهّال.

ثم رفع طرفه إلى بيدبا فقال له: إني أنظرك ساكتاً، لا تعبّر عن حاجتك ولا تذكر بغيتك لعلمتُ أن الذي أسكتك إنما هو بليّةٌ ساورتك أو حيلة أدركتك وتبيّنتُ ذلك في طول وقوفك وقلت: لم يكن بيدبا ليطرقنا من غير عادة إلا لأمري حرّكه، وإنه لمن أفضل زماننا ولا سألته عن سبب دخوله إلينا فإنه لو كان شيء يلتمس فيه الاعتزاز بنا من ضيمٍ ناله كنت أول من أخذ بيده وسارع إلى تشريفه وأولاه بلوغ مراده. وإن كانت بغيته عرضاً من عروض الدنيا أمرت بإرضائه من ذلك بما يحب. وإن يكن شيء من أمر الملك ما لا ينبغي للملوك أن يبذلوه من أنفسهم ولا ينقادوا إليه نظرت مقدار عقوبته عليه. على أنه لم يكن ليحضرني على إدخال نفسه في باب مسألة الملوك وإن كان شيء من أمور الرعية يقصد به صرف عنايتي إليه نظرت ما هو. فإن الحكيم لا يخبر إلا بخير والجاهل يشير بضده. وإني قد فسخت لك الكلام فقل ما بدا لك.

فلما سمع بيدبا كلام الملك أفرح روعه وسرّي عنه ما كان وقع في نفسه من الخوف فكفّر له وسجد ثم قام بين يديه وقال: إن أول ما أقول أن أسأل إله بقاء الملك على الأبد، ودوام ملكه على الأمد، فقد جعل في مقامي هذا شرفاً لي على من يأتي بعدي من العلماء وذكراً باقياً على الدهور عند الحكماء إذ أقبل الملك عليّ بوجهه وعطف عليّ بكرمه. والأمر الذي حملني على الدخول إلى الملك ودعاني إلى التعرض لكلامه المخاطرة بالإقدام على نصيحته التي اختصصتُهُ بها دون غيره. وسيعلم من يتصل به ذلك أني لم أقعد عن غاية فيما يجب للملوك على الحكماء. فإن فسح في كلامي ورعاه عني، فهو حقيق بما يراه في ذلك. وإن ألقاه، فقد بلّغت ما يجب عليّ وخرجت عليّ من لوم يلحقني.

فقال الملك: يا بيدبا تكلم فإني مصغ إليك وسامعٌ منك ما تقول، فقل ما عندك لأجازيك عليه بما أنت أهله.

فقال بيدبا: أيها الملك إني وجدت الأمور التي يختص بها الإنسان من بين سائر الحيوان أربعةً وفيها جماع كل ما في العالم، وهي الحكمة والعفّة والعقل والعدل. فالعلم والأدب والرويّة داخلة في باب الحكمة. والحلم والصبر والرفق والوقار داخلة في باب العقل. والحياء والكرم والصيانة والأنفة داخلة في باب العفة. والصدق والمراقبة والإحسان وحسن الخلق داخلة في باب العدل. فهذه هي المحاسن، وأضدادها هي المساوئ. فهي إن كملت في واحد لم تخرجه الزيادة في نعمته إلى سوء حظّ في دنياه أو إلى نقص من عقباه، ولم يتأسف على ما لم يُغنِ التوفيق ببقائه، ولم يحزنه ما تجري به المقادير في ملكه، ولم يندهش عند مكروه يفدحُهُ. والحكمة كنز لا يفنى مع الإنفاق، وذخيرةٌ لا يضرب لها بالأملاق، وحلةٌ لا تخلق جِدّتها، ولذة لا تتصرّم مدتها. إن كنت عند مقامي بين يدي الملك أمسكت عند ابتدائه فإن ذلك لم يكن مني إلا لهيبة منه وإجلال. ولعمري إن الملوك لأهل لأن يُهابوا ولا سيما من هو في المنزلة التي حلّ فيها الملك عن منازل الملوك قبله.

وقد قالت الحكماء: الزم السكوت فإن فيه السلامة، وتجنب الكلام الفارغ فإن عاقبته ندامة. وحُكي أن أربعة من الحكماء ضمّهم مجلس ملك فقال لهم: ليتكلم كل واحد منكم بكلام يكون أصلا للأدب. فقال الأول: أفضل حلية العلماء السكوت. وقال الثاني: أنفع الأشياء أن لا يتكلم الإنسان حتى يعرف قدر منزلته من عقله. وقال الثالث: أنفع الأشياء للإنسان أن لا يتكلم بما لا يعنيه. وقال الرابع: أروح الأمور للإنسان التسليم للمقادير.

واجتمع في بعض الزمان ملوك الأقاليم من الصين والهند وفارس والروم وقالوا: ينبغي أن يتكلم كل واحد منا بكلمة تدوّن عنه على غابر الدهر: فقال ملك الصين: أنا على ردّ ما لم أقل أقدر مني على ما ردّ ما قلت. وقال ملك الهند: عجبت ممن يتكلم بالكلمة إن كانت له لم تنفعه وإن كانت عليه أوهنته. وقال ملك فارس: إذا تكلمتُ بالكلمة ملكتني وإذا لم أتكلم بها ملكتها. وقال ملك الروم: لم أندم قط على ما لم أقل، ولقد ندمت على ما قلت كثيراً. والسكوت عند الملوك أحسن من الهَذَرِ الذي لا يُرجع منه إلى نفع. وأفضل ما استظلّ به الإنسان لسانه.

غير أن الملك، أطال الله بقاءه، لما أفسح لي في الكلام وأوسع ليه فيه، أول ما أبدأه به من الأمور التي هي غرضي أن تكون ثمرة ذلك له دوني، وأختصّه بالفائدة قبلي، على أنّ العقبى فيما أقصد من كلامي له إنما هي نفعه دوني، وشرفه راجع إليه وأكون أنا قد قضيت فرضاَ واجباً علي.

فأقول أيها الملك إنك في منازل آبائك من الملوك وأجدادك من الجبابرة الذين أنشأوا المدن قبلك ودانت لهم الأرض وبنوا القلاع وقادوا الجيوش واستحضروا العدة وطالت لهم المدة واستكثروا من السلاح والكراع وعاشوا الدهور في الغبطة والسرور، فلم يمنعهم ذلك من اكتساب الجميل ولا قطعهم عن اغتنام الشكر فيما خُوّلوه، وحسن السيرة فيما تقلّدوه، مع عظم ما كانوا فيه من عزة الملك وسكرة الاقتدار.

فإنك أيها الملك السعيد جدّه، الطالع في الكواكب سعده، قند ورثت أرضهم وديارهم وأموالهم التي كانت عندهم فأقمْتَ فيما خوّلك الله من الملك وورثتَ الأموال والجنود، فلم تقم في ذلك بحقّ ما يجب عليك ولا أدّيت المفترض على الملوك إذا أفضى المُلك إليهم، بل طغيت وبغيت وعتوت وعلوت على الرعية وأسأت السيرة وعظمت منك البلية. وكان الأَولى والأشبه بك أن تسلك سبيل أسلافك وتتبع آثار الملوك قبلك وتقفوَ محاسن ما أبقَوه لك وتقلع عما عارُهُ لازم لك وشينُهُ واقع بك، وتحسن النظر في رعيتك وتسنّ لهم سنن الخير الذي يبقى بعدك ذركه، ويعقبك فخره، ويكن ذلك أبقى على السلامة وأدوم على الاستقامة. فإن الجاهل من استعمل في أموره البطر والأمنيّة، والحازم اللبيب من ساس المُلك بالمداراة والرفق. فانظر أيها الملك ما ألقيتُ إليه، ولا ييقُلنّ عليك، فإني لم أتكلم بهذا ابتغاء غرضٍ تجازيني به ولا التماس معروف تكافئني عليه، ولكني أتيتك مشفقاً ناصحاً لك.

فلما قضى بيدبا مقالته، وأنهى مناصحته، ارتعب قلب الملك فأغلظ له الجواب استصغاراً لأمره، وقال: لقد تكلمت بكلام ما أظن أحداً من أهل مملكتي يقدر أن يستقبلني بمثله ويقدم على ما أقدمت عليه، فكيف أنت مع صغر شأنك وضعف منفعتك وعجز قوتك. وقد احتملت على أن تجيبني بمثل هذا الكلام الذي ليس لأحد أن يخاطبني به. ولقد كثر إعجابي من إقدامك وتسلطك بلسانك فيما جاوزت فيه حدّك. وما أجد شيئاً في تأديب غيرك أبلغ من التنكيل بك. ففي ذلك عبرة وموعظة لمن عساه أن يروم من الملوك ما رُمت إذا أوسعوا لهم في مجالستهم.

ثم إن الملك أمر أن يقتل ويصلب. فلما مضوا به فيما أمرهم أمر بإعادته فأحجم عنه ثم أمر بحمله إلى السجن، فحُمل مقيّداً. ثم وجّه في طلب تلامذته ومن كان يجتمع إليه ليودعهم في محبسه فهربوا في البلاد واعتصموا بجزائر البحار. ومكث بيدبا في محبسه أياماً كثيرة لا يسأل الملك عنه، ولا يلتفت إليه، ولا يتجاسر أحدٌ أن يذكره عنده. حتى إذا كانت ليلة من الليالي سَهِد فيها الملك سهداً شديداً ومدّ إلى الفلك بصره ففكر في تنقله وحركات الكواكب فيه، فغرق في الفكر فسلك به إلى استنباط شيء عرض له من أمور الفلك والمسألة عنه. فتذكر عند ذلك بيدبا وتفكّر فيما كلّمه به وارعوى لذلك وقال في نفسه: لقد أسأت فيما صنعت بهذا الفيلسوف وضيّعت واجب حقه وحملني على ذلك سرعة الغضب. فإنه قيل: لا ينبغي أن يكون الغضب في الملوك، فإنه أجدر الأشياء مقتاً لأن صاحبه لا يزال ممقوتاً، والبخل فإنه ليس بمعذور مع ذات يده، والكذب فإنه ليس أحد يجاوزه، وعدم الرّفق في المجاورة فإن السّفه ليس من شأنها. وإني أتيت إلى رجل نصيح لي ولم يكن ثلاّباً فقابلته بضدّ ما كان مستحقاً وكافأته بخلاف ما يستوجب، وما كان ذلك جزاءه مني، بل الواجب أن أسمع كلامه وأنقاد لمشورته.

ثم أنفذ من ساعته من يأتيه به. فلما مثل بين يديه قال له: يا بيدبا ألست الذي قصدت إلى تقصير همتي وعجّزت رأيي فيما تكلمت به آنفا؟ قال بيدبا: يا أيها الملك السعيد إن ما أنبأتك به فيه صلاح لك ولرعيتك وفيه دوام ملكك.

فقال له الملك: أعد عليّ ما قلت ولا تدع منه حرفاً واحداً إلا جئت به. فجعل بيدبا ينشر كلامه والملك مصغ إليه. وجعل كلما سمع كلامه ينكت الأرض بشيء كان في يده. ثم رفع رأسه إليه وأمره بالجلوس فجلس. ثم قال له: يا بيدبا إني قد استعذبت كلامك وحسن موقعه من قلبي وأنا ناظر في الذي أشرتَ به وعاملٌ عليه. ثم أمر بقيوده ففكّت، وألقى عليه من لباس الملوك، وتلقاه بالقبول.

فقال بيدبا: أيها الملك، إن في دون ما كلّمتك به ناحية لمثلك. فقال الملك: صدقت أيها الحكيم الفاضل، ولقد ولّيتك في مجلسي هذا جميع مملكتي. فقال له بيدبا: أيها الملك اعفني من هذا الأمر فإني غير مضطلع بتقويمه إلا بك. فقبل ذلك منه وأغفاه.

فلما انصرف علم أن الذي فعله ليس برأي فبعث إليه واستردّه وقال له: إني فكرت في إعفائك فيما عرضته عليك فوجدت أنه لا يقوم إلا بك ولا ينهض به غيرك، ولا يستطيع له سواك ولا يتخالفني فيه. فأجابه بيدبا إلى ذلك.

وكان من عادة الملوك في ذلك الزمان إذا ألبسوا وزيراً أن يعقد على رأسه تاج ويركب في أهل المملكة ويطاف به في مدينة الملك. فأمر دبشليم أن يُفعل ببيدبا ذلك، فوُضع التاج على رأسه وركب ودار في المدينة ورجع وجلس في مجلس العدل والإنصاف وأخذ للضعيف من القوي وردّ الظالم، ووضع سنن العدل. والتصل الخبر بتلامذته فأتوه من كل ناحية مستبشرين بما ناله من الملك من الأخذ والعطاء والبذل، وشكروا الله تعالى على توفيق بيدبا في إزالة دبشليم عما كان عليه من سوء السيرة، واتخذوا ذلك اليوم عيداً يعيّدون فيه. فهو إلى يومنا ثابت في بلادهم.

ثم إن بيدبا خلا فكره من أشغاله بدبشليم وتفرّغ من السياسة فعمل كتباً كثيرة فيها من دقيق الحيل. ومضى الملك على ما رسم بيدبا من حسن السيرة والعدل في الرعية فرغب إليه الملوك الذين كانوا في نواحيه وانقادت له الأمور على استوائها وفرحت به رعيته وأهل مملكته.

ثم إن بيدبا جمع تلامذته ووعدهم وعداً جميلاً وقال لهم: لست أشك أنه وقع في نفوسكم وقت دخولي على الملك أن قلتم إن بيدبا قد ضاعت حكمته وبطلت فكرته إذ عزم على الدخول إلى هذا الجبّار الطاغي. فقد علمتم نتيجة رأيي وصحة فكري، وإني لم آت الملك جهلاً به لأني كنت أسمع ما يقال: إن الملوك لها سكرةً كسكرة الشبان. فلا يفيق الملوك من سكرتهم إلا مواعظ العلماء وأدب الحكماء. ويجب على الحكماء تأديب الملوك بألسنتها وتقويم حكمتها وإظهار الحجة البيّنة اللازمة لما هم عليه من الاعوجاج والخروج عن العدل. فوجدت ما قالت العلماء فرضاً واجباً على الحكماء لملوكهم ليوقظوهم عن سِنَة سكرتهم، كالطبيب الذي يجب عليه في صناعة الطب حفظ الأجساد وردّها إلى الصحة. فكرهت أن يبقى وأموت فيكون ذلك حسرة عليّ وعليكم وما يبقى على الأرض إلا من يقول كان بيدبا الفيلسوف في مدة دبلشيم الملك فلم يردّه عما كان عليه.

فإن قال قائل: إنه لم يمكّنه كلامه خوفاً على نفسه، قالوا: إن الهرب منه ومن جواره أولى به، والانزعاج عن الوطن شديد. فرأيت أن أجود بحياتي فأكون قد أتيت فيما بيني وبين الحكماء بعدي عذراً. فحملت نفسي على التغرير أو الظفر بما أريد وكان في ذلك ما أنتم معاينوه. فإنه يقال في بعض الأمثال إنه لم يبلغ أحد مرتبة إلا بإحدى ثلاث: إما بمشقة تناله في نفسه وإما بوضيعة في ماله أو بوكَسٍ في دينه. ومن لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب. ثم إن الملك مكث على حسن السيرة زمناً طويلاً وبيدبا يتولى ذلك ويتقدم به.

ثم إن دبشليم لما استقرّ له الملك وسقط عنه النظر في أمور الرعية والنظر في الأعداء ومحاربتهم إذ قد كفاه بيدبا ذلك، صرف همته إلى النظر في الكتب التي وضعتها فلاسفة الهند لآبائه وأجداده، وأحبّ أن يكون في الخزانة كتاب باسمه. وعلم أن ذلك لا يقوم به إلا بيدبا فدعاه وخلا به وقال له: يا بيدبا إنك حكيم الهند وفيلسوفها وإن فكرت ونظرت في خزائن الحكمة التي كانت الملوك قبلي جميعها فلم أر أحداً إلا وقد وضع له كتاب يذكر فيه اسمه وأيامه وسيرته وينبئ عنه وعن أدبه وأهل مملكته. ومنه ما وضعته الملوك لأنفسها ولذلك بانت حكمتها، ومنه ما وبضعته حكماؤها. وإني خفت أن يلحقني ما لحق أولئك مما لا حيلة ليه فيه وهو الموت ولا يوجد لي في خزانتي كتاب يذكره الملوك بعدي وأذكَر فيه وأنسب إليه كما ذكر من كان قبلي بكتبهم. وقد أحببت أن تصنع لي كتاباً بليغاً تستفرغ فيه عقلك، يكون ظاهره سياسة للعامة وتأديبها، وباطنه لأخلاق الملوك وسياستها للرعية على طاعة الملك وخدمته فيسقط بذلك عني وعنهم كثير مما يحتاج إليه في معاناة المُلك. وأريد أن يبقى لي هذا الكتاب ذكراً على غابر الدهر.

فلما سمع بيدبا كلامه خرّ له ساجداً ثم رفع رأسه وقال: أيها الملك السعيد جدّه، علا نجمك وغاب نحسك ودامت أيامك. إن الذي قد طُبع عليه الملك من جودة القريحة ووفور العقل ينبهه لذلك ويحرّكه لمعالي الأمور التي سُمعت به فتعلو همّته إلى أشرف المنزلة وأبعدها غاية، فأدام الله تعالى سعادة الملك وأعانه على ما عزم عليه فأعانني على بلوغ مراده. وليأمر الملك بما شاء من ذلك فإني صائرٌ إلى غرضه ممهّد فيه الرأي.

قال له الملك: لم تزل يا بيدبا معروفاً بعقد الرأي المبارك بطاعة الملوك في أمرهم وقد اختبرت ذلك منك واخترت أن تضع هذا الكتاب وتجهد فيه نفسك وتعمل فيه بغاية ما تجد إلي السبيل. وليكن مشتملاً على الجد والهزل واللهو والحكمة والفلسفة ليفرغ الحكيم ذهنه لما فيه من حكمة، وتشرح المعاني صدره لما فيه من لهو.

فكفّر له بيدبا وسجد وقال: أجبت الملك لما أمرني به من ذلك وجعلت بيني وبينه أجلاً. قال الملك: وكم هو يا بيدبا؟ قال: سنةٌ. قال: لقد أجّلتك يا بيدبا. وأمر له بجائزة سنيّة يستعين بها على عمل الكتاب كما رسم له الملك.

ثم إن بيدبا أخذ يتذكر أياماُ في الأخذ في ابتداء الكتاب وفي أي صورة يبتدئ به وعلى أي وضع يضعه وعلى أي جنس يرسمه. وجمع تلامذته وقال لهم: إن الملك قد ندبني لأمر فيه فخري وفخركم وفخر بلادكم إلى الأبد، وقد جمعتكم لهذا الأمر. إن الملك دبشليم قد بسط لساني في أن أضع له كتاباً فيه من ضروب الحكمة. ثم وصف لهم ما أشار إليه الملك من أمر الكتاب والغرض الذي قصده في نظمه وترتيبه. وقال لهم: فليضع كل واحد شيئاً في أي فنّ شاء وليعرضه عليّ لأعرف مقدار عقله وأين بلغ من الحكمة فهمه.

قالوا بأجمعهم: أيها الحكيم الفاضل واللبيب العاقل والذي وهب كل ما منحك من الحكمة والعقل والصيانة (وهو الله تعالى)، ما خطر هذا في قلوبنا ساعة قط وأنت رئيسنا وفاضلنا بك شرفنا وعلى يديك انتعاشنا، ولكن سنجهد أنفسنا فيما أمرت. فلم يقع لهم الفكر في ما تقدم به الملك.

فلما لم يجد عندم ما يريد فكّر بفضل حكمته، وعلم أن ذلك أمر إنما يتم باستفراغ الفكر وإعمال العقل. وقال: أرى السفينة لا تجري في البحر إلا بأمر الملاحين لأنهم يعدلونها، وإنما تقطع اللجة وتسلك البحر بمدبّرها الذي تفرّد بإمرتها، ومتى ثقلت بالركّاب وكثر ملاحوها لم يؤمن عليها الغرق.

ثم لم يزل يفكر في رسم الكتاب حتى وضعه على الانفراد بنفسه مع رجل من تلامذته كان يثق بعقله. فخلا به قعد أن أعد من الورق شيئاً كثيراً ومن القوت ما يقوم به وبتلميذه مدة سنة، ثم احتبسا في مقصورة وردّا عليهما الباب. ثم بدأ بيدبا في نظم الكتاب على غاية منها قائم بنفسه. وفي كل باب مسألة والجواب عنها، ليكون فيه هحظ لمن نظر في الأبواب، وسماه كتاب كليلة ودمنة. وجعل الكلام على ألسن البهائم والسباع والوحش والطير ليكون ظاهره لهواً للعامة وباطنة سياسة للخاصة، متضمنا ما يحتاج الإنسان إليه من أمر دينه ودنياه وآخرته على حسن طاعة الملوك ومجانبة ما تكون مجانبته خيراً له. ثم جعله ظاهراً وباطناً كسائر كتب الحكمة، فصارت صور الحيوانات فيه لهواً وما نطقت به حكما وأدباً.

ولما ابتدأ بيدبا بذلك جعل أول الكتاب وصف الصديق، كيف يكون صديقان وكيف يقطع المودة الثابتة بينهما ذو الحيلة والنميمة. فأمر تلميذه أن يكتب على لسانه ما كان الملك شرط عليه. وذكر بيدبا أن الحكمة متى دخلها كلام الغفلة أفسدها واستجهلت حكمتها.

ثم إن بيدبا وقع له موضع الهزل من الكتاب فرسمه، وموضع الجد فأثبته. فجاء الكتاب على لسان البهائم. وكانت الحكمة ما نطقوا به فترك العقلاء الظاهر من ذلك واشتغلوا بما فيه من الحكم والآداب. وأما الجهّال فلم يعلموا السبب فيما وُضع لهم وأظهروا عجباً من محاورة بهيمتين فاتخذوه لهواً وعجزوا عن معنى الكلام أن يفهموه، ولم يعلموا الغرض الذي وُضع لهم لأن الفيلسوف كان غرضه في الباب الأول أن يُخبر عن تواصل الإخوان وكيف تتأكد بينهم المحبة بالتحفّظ من أهل السّعاية والتحرّز عن بُرقُع العداوة والقطيعة بين المتحابين بالكذب ليجرّ الساعي بذلك نفعاً إلى نفسه.

فلما تم الكتاب وتم الأجل أنفذ الملك دبشليم إلى بيدبا أن قد جاء الوعد فماذا صنعت؟ فأنفذ إليه بيدبا: إني على ما وعدت الملك فليأمرني لأحمله إليه بعد أن يجمع أهل مملكته لتكون قراءتي لهذا الكتاب بحضرتهم.

فلما رجع الرسول إلى الملك دبشليم سُرّ بذلك سروراً عظيماً ووعده يوماً يجمع أهل مملكته فيه. ثم نادى في أقصى بلاد الهند ليحضروا قراءة الكتاب. فلما كان اليوم واجتمع الناس أمر الملك أن يُنصب له سرير ولبيدبا سرير.

وحضروا، وقام بيدبا وعليه ثياب الحكمة التي كان يلبسها إذا دخل على الملوك وهي المسوخ السود. فلما دنا من الملك كفّر له وسجد له فلم يرفع رأسه.

فقال له الملك: يا بيدبا رفع رأسك فليس هذا يوم نحيب، هذا يوم سرور وشكر. ثم سأله حين قرأ الكتاب عن معنى كل باب وأيّ شيء قصده فيه، فأخبره بغرضه فيه وقصده في كل باب فازداد به سروراً ومنه تعجّباً وقال له: يا بيدبا ما عدوت ما كان في نفسي، وهذا الذي كنت أطلب، فتمنّ ما شئت وتحكّم. فدعا له بالسعادة وقال: أيها الملك، أما المال فلا حاجة لي فيه، وأما الكسوة فلا أختار سوى لباسي هذا، ولست أخلي الملك من حاجة إذا عرضت. فقال الملك: وما حاجتك الآن، فكل حاجة لك قبلنا مقضيّة. فقال: أسأل الملك أن يأمر بتدوين كتابي هذا كما دوّن آباؤه وأجداده كتبهم وان يأمر بالاحتياط عليه، فإني أخاف أن يخرج من بلاد الهند فيتناوله أهل فارس إذا علموا به فيذهب، والآن لا يخرج من بيت الحكمة. ثم دعا الملك بتلامذته فخلع عليهم وأمر لهم بالجوائز.

ثم إنه لما ملك كسرى أنو شروان، وكان مستبشراً بالكتب في العلم والأدب رُفع إليه خبر هذا الكتاب فلم يقرّ له قرارٌ حتى بعث برزويه الطّبيب فاحتال وتلطّف حتى أخرجه من بلاد الهند فأقرّه في خزائن فارس.
كتاب
كتاب
عضو جديد
عضو جديد

عدد المساهمات : 5
نقاط : 337514
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 09/02/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty بعثة كسرى لبرزويه إلى بلاد الهند

مُساهمة من طرف باب الأحد مارس 22, 2015 1:13 am

قال بزرجمهر في ذلك: أما بعد فإن الله تبارك وتعالى خلق خلقه أطواراً برحمته ومنّ على عباده بفضله ورزقهم ما يقدرون به على إصلاح معايشهم في الدنيا وما يدركون به استنقاذ أرواحهم من أليم العذاب. فأفضل ما رزقهم ومنّ عليهم به العقل الذي هو قوةٌ لجميع الأحياء. فما يقدر أحد منهم على إصلاح معيشةٍ ولا إحراز منفعة ولا دفع ضر إلا به وكذلك طالب الآخرة المجتهد على استنقاذ روحه من الهلكة. فالعقل هو سبب كل خير ومفتاح كل رغبة وليس لأحد غنىً عنه. وهو مكتسب بالتجارب والآداب وغريزة مكنونة في الإنسان كامنة ككمون النار في الحجر والعود لا تُرى حتى يقدحها قادح من غيرها. فإذا قدحها ظهرت بضوئها وحريقها. كذلك العقل كامن في الإنسان لا يظهر حتى يظهره الأدب وتقويه التجارب، فإذا استحكم كان هو السابق إلى الخير والدافع لكل ضر. فلا شيء أفضل من العقل والأدب. فمن منّ عليه خالقه بالعقل وأعان هو على نفسه بالمثابرة على أدب والحرص عليه سعد جده وأدرك أمله في الدنيا والآخرة.

وقد رزق الله ملكنا هذا السعيد الجد أنو شروان من العقل أفضل الرزق ومن النصيب أجزله وأعانه على ما رزق من ذلك بحسن الأدب والبحث عن العلم وطلب التفسير لجميع علوم الفلسفة والاستنباط عما غاب، والتخير للصواب مما ظهر، فبلغ في ذلك ما لم يبلغه ملك قط ممن كان قبله من الملوك.

وكان فيما يطلب من العلم ويبحث عنه أنه بلغه أن كتاباً من كتب الهند عند ملوكهم وعلمائهم نفيس مخزون وهو أصل كل أدب ورأس كل علم والدليل على كل منفعة ومفتاح طلب الآخرة والعمل للنجاة من هولها والمقوي لما يحتاج إليه الملوك لتدبير ملكهم ويصلحون به معايشهم وهو كتاب كليلة ودمنة.

فلما تيقن ما بلغه عن ذلك الكتاب وما فيه من منافع تقرية العقل والأدب لم يطمئن بالاً ولم يسكن حرصاً على استفادته والنظر فيه وفي عجائبه. وكان رجلاً عاقلاً أديباً. فسأهل أهل مملكته أن يختاروا رجلاً عاقلاً أديباً عالماً ماهراً بالفارسية والهندية حريصاً على العلم مجتهداً في استكمال الأدب مثابراً على النظر والتفسير لكتب الفلسفة فيؤتى به. فطلب الرجل حتى ظفروا به فأتي برجل شاب جميل ذي حسب كامل العقل والأدب، صناعته التي يعرف بها الطب وكان ماهراً بالفارسية والهندية يسمى برزويه.

فلما دخل عليه سجد له ثم قام مكفّراً فقال له الملك: يا برزويه إني قد اخترتك لما بلغني عن فضلك وعقلك وحسن أدبك وحرصك على طلب العلم حيث كان. وقد بلغني عن كتاب للهند مخزون بخزائنهم. وقصّ عليه قصته وأخبره بما بلغه عنه وعظيم رغبته فيه وأمره بالجهاز للخروج في طلبه وأن يتلطف بعقله ورفقه وحسن أدبه لاستخراج ذلك الكتاب من خزائنهم ومن قبل علمائهم إما مكتوباً بالفارسية فيستنقذه له هو وغيره من الكتب التي ليست في خزائنه ولا في ملكه.

وأمر أن يحمل معه من المال ما أراد، فإن نفذ قبل أن يصير إلى حاجته كتب إليه ليمدّه من المال ما أحب وإن كثر. وقال: لا تقصّر في طلب كل علم فليست النفقة عوضاً من الفائدة ولو أحاط بجميع ما في خزائني. وأمر المنجمين أن يتخيروا له يوماً يسير فيه وساعة صالحة. فخرج وحمل معه من المال عشرين ألف دينار.

ولما قدم برزويه على أرض ذلك الملك وتخلل مجالس الأسواق وسأل عن قرابة الملك والأشراف وعن العلماء والفلاسفة جعل يغشاهم في منازلهم ويتلقاهم بالتحية والمساءلة على باب الملك ويخبرهم أنه رجل غريب قدم بلادهم في طلب العلم والأدب، وأنه محتاج إلى معونتهم على ما طلب من ذلك ويسألهم إرشاده إلى حاجته. ومع شدة كتمانه لما قدم له لم يزل في ذلك زماناً طويلاً يتأدب بما هو أعلم به ويتعلم من العلوم ما هو ماهر فيه. واتخذ لطول إقامته إخواناً كثيرين من أهل الهند من الأشراف والسوقة ومن العلماء وأهل كل صناعة واختص من جماعتهم رجلا يسمى أدويهْ وجعله صاحب سره ومشورته لما ظهر له من حسن علمه وفضل أدبه وصحة إخائه ومحض مودته. وكان يستشيره في جميع الأمور إلا أنه كان يكتمه الأمر الوحيد الذي يعنيه. وكان يألوه باللطف لينظر هل يراه موضعاً لإطلاعه على سره.

فلم يزل يبحث عن ذات نفسه حتى وثق به وعرف أنه لما استودع من السر موضع وفيما طلب منه مجمّل وبما سئل مشفّع وفيما استعان به عليه مجتهد، فازداد له إلطافا. وكان إلى ذلك اليوم الذي رجا أن يكون قد بلغ فيه حاجته قد أعظم النفقة مع طول الغيبة في استلطاف الأصدقاء ومجالستهم على الطعام ومنادمتهم على الشراب لطلب الثقات منهم. فلم يطمئن لأحد ممن آخاه إلى لصديقه الذي ذكرناه. وكان ممك حكّم به برزويه صديقه ذلك والذي رد عليه وكيف فتّش عقله حتى وثق به واطمأن إليه أن قال له وهما خاليان: يا أخي ما أريد أن أكتمك من أمري شيئاً فوق ما كتمتك. فاعلم أني لأمري ما جئت وهوغير ما تراه يظهر مني. والعاقل يكتفي من الرجل بالعلامات من نظره وإشارته بيده لكي يعلم سر نفسه وما يضمر في قلبه.

قال له الهندي: إني وإن لم أكن بدأتك وأخبرتك بماله جئت وإياه طلبت وإليه قصت وإنك تكتم أمراً تطلبه وأنت مظهر غيره، فإنه لم يكن ليخفى عني ولكن لرغبتي في إخائك كرهت أن أواجهك به فإنه قد ظهر لي ما تكتم، وقد استبان لي ما أنت فيه وما تخفيه عني. فأما إذا فتحت الكلام فأنا مخبرك عن نفسك ومظهرر لك سريرة أمرك ومعلمك حالك الذي قدمت له. فإنك قدمت بلادنا لتسلبنا كنوزنا النفيسة فتذهب بها إلى بلادك لتسر بها ملكك. وكان قدومك بالمكر ومصادقتك بالخديعة ولكني رأيت من صبرك ومواظبتك على طلب حاجتك وتحفظك أن تسقط في طول مكثك عندنا بكلام يستدل به على سر أمرك فازددت رغبة في عقلك وأحببت إخاءك فلا أعلم أني رأيت رجلاً أرصن عقلاً ولا أحسن أدباً ولا أصبر على طلب حاجة، ولا أكتم للسر منك، ولا أحسن خلقاً ولا سيما في بلاد الغربة ومملكة غير مملكتك، وعند قوم لم تكن تعرف شيمهم وأمرهم. واعلم أن عقل الرجل يستبين في هذه الثماني الخصال: الأولى الرفق والتلطف، والثانية أن يعرف الرجل نفسه فيحفظها، والثالثة طاعة الملوك وأن يتحرّى ما يرضيهم، والرابعة معرفة الرجل موضع سره كيف ينبغي أن يطلع عليه صديقه، والخامسة أن يكون على أبواب الملوك أديباً حيّلاً ملق اللسان، والسادسة أن يكون لسره وسر غيره حافظاً، والسابعة أن يكون على لسانه قادراص فلا يفلظ من الكلام إلا ما قد تروّى فيه وقدّره فلا يطلع عليه إلا الثقة، والثامنة أن لا يتكلم إذا كان من المحفل عما لم يسأل عنه ولا يقول ما لم يستقينه ولم يظهر من الأمر ما يندم عليه. فمن اجتمعت فيه هذه الخصال كان هو الداعي إلى الخير والربح والمجتنب الشر والخسران. وهذه الخصال كلها بينة ظاهرة فيك واضحة لي منك، فالله يحفظك ويمتعني بمودتك. ومن اجتمعت فيه هذه الخصال الثماني كان أهلاً أن يشفع في طلبته ويسعف بحاجته ويعطى سؤله. ولكن حاجتك التي تطلب قد أرعبتني وأدخلت عليّ الوحشة والخشية فنسأل الله السلامة.

فلما عرف برزويه أن الهندي قد علم أن مصادقته إياه كانت مكراً وختلاً لطلب حاجته وأنزل ذلك منه منزلة اختلاس وسلب فلم يزجره ولم ينتهره ولكنه ردّ رداّ لينا كرد الأخ على أخيه باللين والإشفاق حتى اطمأن ووثق بقضاء حاجته. ثم قال للهندي: إني قد كنت هيّأت كلاماً كثيراً ووضعت له أصولاً وشعّبت فيه شعاباً وشجّنت له شجوناً وأنشأت له أغصاناً وأطرافاً. فلما اكتفيت به فعرفت باليسير أُبتُ عما كنت قد اختلقته فسلم الله لك في العقل والأدب فكفيتني مؤونة الكلام وحزت الجواب باليسير من القول والإسعاف بالحاجة كما قد بدا لي منك. فإن الكلام إذا انتهى إلى العلماء والسر إذا استودع اللبيب الحافظ ثبت وبلغ غاية أمل صاحبه قوياً ثابتاً كثبات القصر الذي أحكم أساسه بالصخور، وكالجبل الذي لا تزعزعه الرياح ولا تزلزله.

قال الهندي: لا شيء أفضل من المودة، فمن خلصت مودّته كان أهلاً أن يخلطه الرجل بنفسه ولا يذّخر عنه شيئاً مما عنده. ورأس الأدب حفظ السر فإذا كان السر عند الأمين الحافظ فهو موضعه مع أنه خليق أن لا يكتم وأن لا يكون سرا لأن السر إذا تكلم به لسانان صار إلى ثلاثة فشاع في الناس، حتى لا يستطيع صاحبه أن يجحده، كالغيم إذا كان متقطعاً فقال أحد إن هذا غيم متقطع، لم يكذبه أحد على ذلك بل يصدقه كل من يراه متقطعا. وأما أنا فقد اشتدّ سروري وابتهاجي بمودتك ومخالطتك. وهذا الأمر الذي تطلبه مني سر ليس بمكتتم ولا بد أن يفشو في المجالس. فإذا فشا وعلن هلكت نفسي هلاكاً لا أقدر على الخلاص منه بالفداء بمال وإن كثر لأن ملكنها فظّ غليظّ يعاقب على الطفيف فكيف على مثل هذا.

فقال برزويه: إن العلماء مدحت الصديق إذا كتم سر صديقه، وهذا الأمر الذي له قدمت إياك اعتمدت به ولك أفشيته ومنك أرجو الحاجة، وهو أمر جسيم وخطره عندي عظيم وأنا واثق بعقلك ولطفك وحسن تأتّيك وحيلتك في دركي ما أمّلته على يديك وبيمنك وبركتك وإن مسّتك في ذلك مشقة من خشية. وأنا أعلم أنك آمن من قبلي أن أطلع عليه أحداً ولكنك تتقي أهل بلادك المطيفين بالملك أن يشيّعوا ذلك. وأرجو أن لا يشيع لأني ظاغن وأنت مقيم وما أقمت فليس بيننا ثالث وإذا رحلت عنك أمنت نفسك أن تفشيه عليك.

وكان الهندي خازن الملك وبيده مفاتيح خزانته فأعطاه حاجته من الكتب. فلما وقف برزويه على مطلوبه أخذ في نسخ كليلة ودمنة وتفسيره وأقام على ذلك زماناً طويلاً. ثم عظمت فيه نفقته ومؤونته وأنصب في بدنه وسهر فيه ليلة ودأب فيه نهاره وهو على خوف من نفسه. فلما فرغ من ذلك الكتاب ومما رغب من سائر الكتب وأحكممها كتب إلى أنو شروان يعلمه بما لقي من النصب والروع وأنه قد فرغ من حاجته.

فلما انتهى الكتاب إلى أنو شروان وقرأه وعلم أنه قد فزع من حاجته فرح فرحاً شديداً ثم تخوف معالجة المقادير أن تنغّص عليه فرحه وينقض سروره وأمر بالكتاب إلى برزويه يسأله أن لا يعرج عن القدوم وأن يبسط أمله بما جدد له من حسن رأي الملك فيه، وأنه مفضله ومتخذه وزيراً وأن يبادر الأجل ويعزم على الصبر فإن عاقبته إلى خير ونجاة في الدنيا والآخرة.

ووجه بالكتاب مع بعض ثقاته مع البريد وأمره أن يسير في غير الجادة حذر أن يوجد فيفشو ما كان أسرّ فيذهب كل ما كان عمل ضلالاً.

فلما انتهى الرسول إلى برزويه دفع الكتاب إليه سرا. فلما قرأه تجهز للسفر وسار حتى قدم إلى أنو شروان. فأخبر بقدومه فأمر بإدخاله عليه. فلما رأى ما أصابه من التعب والنصب رقّ له وقال: أبشر أيها العبد الصالح فستأكل حلاوة ثمرة نصيحتك فقرّ عيناً فقد استوجبت الشكر من جميع الرعية وعظيم المكافأة منا وننزلك أفضل المنازل وأشرفها. وأمره أن يريح نفسه وبدنه سبعة أيام ثم يأتيه ذلك.

فلما كان الثامن دعا به وأمر أن يحضر العظماء والأشراف. فلما اجتمعوا وعنده برزويه أمر بإحضار الكتب التي قدم بها من الهند ففتحت وقرئ ما فيها على رؤوس الأشهاد. فلما حكوها على ألسن الحيوان والطير فرحوا فرحاً شديداً وشكروا الله على ما منّ به عليهم على يد برزويه. وأحسنوا الثناء عليه في إنصاب بدنه واستخراج الكتب لهم وإفادتها إياهم.

ثم أمر الملك بعد ذلك أن تفتح لبرزويه خزائن الجوهر والذهب والفضة والكسوة وأقسم عليه الملك إلا دخل وأخذ ما أحب منها وأن لا يقصر فإن ذلك كله ليس بعوض مما أفاده. فسجد برزويه للملك ودعا له ثم قال: أكرم الله الملك كرامة يجمع له بها شرف الدنيا والآخرة وأحسن جزاءه، فقد أغناني الله بحسن رأي الملك عن جميع عروض الدنيا بما وهب الله لي على يديك أيها الملك العظيم الخطير الكريم الخلق السعيد الجد. ولا حاجة لي إلى المال ولكن لسروري بموافقة الملك سيدي واتباع مسرّته آخذ من كسوة الملك تختاً من طراز قوهستان أتجمل به في خدمة الملك وعلى بابه.

فأخذه وذهب به إلى منزله ليفاخر مَن بباب الملك من أهل بيته وخاصته ثم قال: أصلح الله الملك وأكرمه. إن الإنسان إذا كان ذا عقل وأدب فأكرم وأعطي وأحسن إليه وجب عليه أن يشكر ذلك، وإن كان قد استوجبه قبل أن يعطاه. فأنا للملك شاكر أسأل الله له دوام السرور والغبطة في جميع الأمور. ولي أعز الله الملك حاجة هي أعظم الحوائج عندي وأكملها لدي وأشرفها قدراً عندي بعد رضا الملك. فإن رأى الملك أن يشفعني بحاجتي ويعطيني سؤلي فإنها يسيرة على الملك وعظيمة القدر والموقع مني. قال أنو شروان كسرى: سل تعط ما أحببت واشفع تشفع واذكر حاجتك تسعف بها وتكرم، فإن جزاءك عندنا عظيم. ولو سألت الشركة في الملك لم نردّ طلبتك فكيف ما سوى ذلك. فقل فإن جميع ما تسأل مبذول لك وحباً وكرامة.

قال برزويه: أكرم الله الملك وأحسن عني جزاءه فلست أمنّ على الملك بنصبي وعنائي. فله الفضل علي بما عوّضني وشركني في هذه الفائدة. والملك بكرمه وفضل رأيه قد كافأني وأحسن إلي فليعظّم المنّة على عبده باستتمام النعمة إليه وإلى أهل بيته ويشرّفه بأن يأمر بزرجمهر ابن البختكان وزيره ويعزم عليه أن يجهد نفسه في وضعه باباً يذكر فيه أمري وحالي ويبالغ في ذلك بأحسن الكلام وأزين الذكر وأحسن التأليف، ويأمر بذلك الباب إذا فرغ منه أن يضعه بين تلك الأبواب التي في الكتاب ليحيا به ذكري ما حييت في الدنيا وبعد وفاتي، فإنه إن فعل ذلكبي فقد شرّفني وأهل بيتي إلى آخر الأبد ما دام هذا الكتاب منشوراً في الدنيا يُقرأ.

فلما سمع الملك وعظماؤه مقالته عجبوا من عقله ومما سما إليه رأيه وما طلب من الشرف الدائم في الدنيا. وقال الملك: أنت أهل أن تشفع بطلبك فما أيسر ما طلبت في جنب ما تستوجب وإن كان عندئذ عظيم الخطر.

فأرسل الملك إلى وزيره بزرجمهر من ساعته فقال له: فقد علمت مناصحة برزويه وتحرّيه لمسرّتنا ومرضاتنا وركوبه الهول والمخاوف في حاجتنا، وإنصابه نفسه وبدنه فيما يسرّنا وما أصبنا على يديه من العقل والحكمة، وما عرضنا عليه لكي نعوضه من ذلك، فلم يقبل ورضي منا بالأمر اليسير. فإني جزاء له وكرامة أحب أن نشفعه في ذلك. ويسرني أن نجتهد في قضاء حاجته وأن تُكتب باباً مشابهاً لتلك الأبواب التي في ذلك الكتاب وتذكر فيه فضل برزويه وكيف كان بدء أمره وشأنه وطبّه وصناعته وأدبه وترفّعه من ذلك إلى بعثتنا إياه إلى الهند بأفضل ما تجد من المدح في الكلام بما تسرّني به وتسرّه وجميع أهل المملكة. فإنه يستحق ذلك منا ومنك خاصة لعظيم مجبتك الأدب والعلم وأهله. فإن اجتهادك في ذلك وترتيبه راجع فضله إليك. وكلما نظر فيه أحد من العلماء كنت شريك برزويه في ذلك الذكر. واجعل ذلك الباب أول الأبواب. فإذا أنت فرغت من ذلك الباب ووضعته موضعه فأرنيه حتى أجمع العظماء والأشراف والعلماء فتقرأه على رؤوسهم ليظهر لهم من علمك وأدبك واجتهادك في مسرّتنا ما خفي عليهم.

فلما سمع برزويه مقالة الملك وعظيم منزلته عنده خرّ له ساجداً وقال: أدام الله لك أيها الملك السرور والفرح وقرة العين، ورزقك من الشرف في الدنيا ما تفوق به جميع المخلوقين، وفي الآخرة أفضل المنازل مع الصالحين في جنات النعيم.

فخرج بزرجمهر من عند الملك فأخذ في وضع ذلك الباب ووصف أمر برزويه من أول ما دفعه أبواه في التعليم إلى أن بعثه الملك إلى الهند، وجاء به بأحسن ما يقدر عليه من الوصف وما عرف به من أدب برزويه وسيرته من أول ما عرفه، وما ظهر للناس من استحقاره الدنيا وزهده فيها ورغبته في الآخرة، ولم يترك من اخلاق برزويه وطبائعه شيئاً إلا ذكره بأحسن ما يقدر عليه بتأليف ونسق محكم. ثم أعلم الملك بفراغه منه وأنه قد وضعه في أول الكتاب وهو باب برزويه المتطبب.

فجمع أنو شروان العظماء والأشراف فدخلوا عليه ودعا بزرجمهر والكتاب بمحضر من برزويه فقرئ على رؤوس الأشهاد. ففرح الملك بذلك وبما أوتي بزرجمهر من العقل والعلم وبما اجتهد في مدح بزرجمهر من العقل والعلم وبما اجتهد في مدح برزويه من غير كذب ولا ادعاء باطل في المدح. فأمر له بجائزة عظيمة من المال والحلي والثياب، فلم يأخذ إلا كسوة كانت من ثياب الملك خاصة. وشكر له برزويه وقبّل رأسه ويده، وأقبل برزويه على الملك يشكره فقال: أدام الله لك أيها الملك والكرامة والجمال في الدنيا والآخرة بما أكرمتني به وأعظمت عليّ المنّة به من تشريفي بالجزاء وأفضل وأكمل ما جازى به أحد من خلقه وأعانني الله على تأدية شكرك ومبلغ رضاك وطاعتك، وعمّرك أقصى ومنتهى غاية ما عمّر به أحداً من آبائك في أفضل السرور وأعم العافية، ووصل ذلك بجزيل شرف الآخرة ورضوان الرب. إنه على ذلك قدير. وجزى الله بزرجمهر بن البختكان خير الجزاء وأحسن عني مكافأته.

فقد عجز لساني عن تأدية شكر الملك وشكره ولو أطنبت بكل ثناء وشكر. والله وليّ ذلك والقادر عليه والسلام.
باب
باب
عضو جديد
عضو جديد

عدد المساهمات : 4
نقاط : 334013
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty برزويه

مُساهمة من طرف باب الأحد مارس 22, 2015 1:14 am

قال برزويه رأس أطباء فارس وهو الذي تولى انتساخ هذا الكتاب وترجمته من كتب الهند: إن أبي كان من المقاتلة وكانت أمي من عظماء بيوت الزمازمة وكان مما ابتدأني به ربي أني كنت من أكرم ولد أبويّ عليهما، وكان لي أشد احتفالاً منهما لسائر إخوتي، وأنهما أسلماني في تعليم الكتّاب حتى بلغت في العلم، فلما حذقت الكتابة شكرت أبويّ ونظرت في العلم، وكان أول علم رغبت فيه علم الطب فحرضت عليه حتى إذا حصّلت منه جانباً عرفت فضله وازددت عليه حرصاً وله اتباعاً. فلما بلغت فيه إلى أن أدمنت نفسي على مداواة المرضى هممت بذلك في الناس قولاً وعملاً. ولما تاقت نفسي إلى ذلك ونازعت إلى أن تغبط غيري وتتمنى منازلتهم أبيت لها إلا الخصومة وقلت: يا نفس ألا تعرفين نفعك من ضرّك، ألا تنتهين عن تمنّي ما لا يناله أحد إلا قلّ متاعه وكثر عناؤه فيه وخباله عليه واشتدّت البلية عليه عند فراقه وعظمت التبعة منه عليه بعده.

يا نفس ألا تذكرين ما بعد هذه الدار فينسيك ذلك ما تشرهين إليه من هذه الدار. ألا تستحين من مشاركة العجزة الجهّال في حب هذه العاجلة الفانية التي من كان في يده منها شيء فليس له وليس بباق معه والتي لا يألفها إلى المغترّون الغافلون. فانصرفي عن هذه النسبة وأقبلي بقوتك وما تمليكن على تقديم الخير والأجر ما استطعت، وإياك والتسويف. واذكري أن لهذا الجسد وجوداً وآفات وأنه مملوءة أخلاطاً فاسدةً قذرة يجمعها لمنافع أربعة أخلاطٍ متغالبة تغمرهن الحياة. والحياة إلى نفاذ كاللصنم المفصّلة أعضاؤه إذا ركّبت تلك الأعضاء وصنّفت في مواضعها جمعها مسمارٌ واحد يمسك بعضها على بعض، فإذا أخذ المسمار تساقطت الأوصال.

يا نفس لا تغتري بصحبة أحبائك وأخلائك ولا تحرصي على ذلك كل الحرص فإن صحبتهم على ما فيها من السرور كثيرة الأذى والأحزان، ثم يختم ذلك بعاقبة الراق. ومثله مثل المغرفة التي لا تستعمل في سخونة المرق في جدتها. فإذا انكسرت صارت عاقبة أمرها إلى أن تحرق بالنار. فأمرت نفسي وخيّرتها الأمور الأربعة التي إياها يطلب الناس وإليها يسعون فقلت: ينبغي لمثلي في مثل العلم أن يطلب أيها أفضل: المال أم اللذات أم الصّون أم أجر الآخرة.

فاستدللت على الخيار من ذلك أني وجدت الطب محموداً عند العقلاء، ولم أجده مذموماً عند أحد من أهل الأديان والملل. ووجدت في كتب الطب أن أفضل الأطباء من واظب على طبه لا يبتغي بذلك إلا أجر الآخرة. فرأيت أن أواظب على الطب ابتغاء أجر الآخرة ولا أبتغي بذلك ثمناً وأكون كالتاجر الخاسر الذي باع ياقوتة كان مصيبا بثمنها غنى الدهر بخرزة لا تساوي شيئا. مع أني قد وجدت في كتب الأولين أن الطبيب الذي يبتغي بطبه أجر الآخرة لا ينقصه ذلك من حظه في الدنيا وأن مثله في ذلك مثل الزارع الذي إنما يحرث أرضه ويعمرها ابتغاء الزرع لا ابتغاء العشب، ثم هي لا محالة نابت فيها ألوان العشب.

فأقبلت على مداواة المرضى. فلم أدع مريضا أرجو له البرء ولا آخر لا آرجو له البرء إلا أني أطمع له في خفة الوجع والأذى إلا بلغت في مداواته جهدي. ومن قدرت على القيام قمت عليه ومن لم أقدر على القيام عليه وصفت له وأمرته وأعطيته ما يتعالج به من الدواء ولم أرد على ذلك أجرة ولا مكافأة. ولم أغبط من نظرائي ومن هو مثلي في العلم وفوقي من المال والجاه أحداً لغير ذلك ممن له صلاح وحسن سيرة.

يا نفس لا يحملنك أهلك وأقاربك على جميع ما تهلكين في جمعه إرادة لصلتهم ورضاهم فإذا أنت كالدخنة الطيبة التي تحرق بالنار ويذهب بعرفها آخرون.

يا نفس لا تغتري بالغنى والمنزلة التي ينظر إليها أهلها، فإن صاحب ذلك لا يبصر صغير ما يستعظم حتى يفارقه فيكون كشعر الرأس الذي يخدمه صاحبه ما دام على الرأس فإذا فارق رأسه استقذره ونفر منه.

يا نفس داومي على مداواة المرضى ولا تقلعي عن ذلك أن تقولي للطب مؤونة شديدة والناس لها ولمنافع الطب جهال. ولكن اعتبري برجل يفرج عن رجل كربه ويستنقذه منه حتى يعود بعده إلى ما كان فيه من الروح والسعة ما أخلقه لعظم الأجر وحسن الثواب. فإن كان الذي يفعل هذا برجل واحد يرجو ذلك كله فكيف الطبيب الذي يداوي العدة التي لا يعلمها إلا الله ابتغاء الأجر، فيصيرون بعد الأوجاع والأسقام الحائة بينهم وبين الدنيا ولذتها ونعيمها وطعامها وشرابها وأزواجها وأولادها إلى أحسن ما كانوا يكونون عليه من حال دنياهم. إن هذا لخليق أن يعظم رجاؤه ويثق بحسن الثواب على عمله.

يا نفس لا يبعدن عليك أمر الأخرة فتميلي إلى العاجلة فتكوني في استعمال القليل وبيع الكثير باليسير كالتاجر الذي زعموا أنه كان له ملء بيت من الصندل فقال: إن بعته موزونا طال علي، فباعه جزافاً بأخس الأثمان.

فلما خاصمت نفسي بهذا وآخذتها به وبصّرتها إياه لم تجد عنه مذهباً فاعترفت وأقرّت ولهت عما كانت تنزع إليه، وقامت على مداواة المرضى ابتغاء أجر الآخرة. فلم يمنعني ذلك أن أصبت حظا عظيما من الملوك قبل أن آتي الهند، وبعد رجوعي إلى ما نلت من الأكفاء والإخوان فوق الذي كان طمعي فيه وتجمح إليه نفسي وفوق ما كنت له آهلا.

ثم نظرت في الطب فوجدت الطبيب لا يستطيع أن يداوي المريض من مرضه بدواء يزيل عنه داءه فلا يعود إليه أبداً وغيره من الأدواء. والداء لا يؤمن عوده أو أشد منه. ووجدت عمل الآخرة هو الذي يسلم من الأدواء كلها سلامة فلا تعود إليه بعد ذلك فاستخففت في الطب ورغبت في الدين.

فلما وقع ذلك في نفسي اشتبه علي أمر الدين ولم أجد في الطب ذكراً لشيء من الأديان ولم يدلّني على أهداها وأصوبها. ووجدت الأديان والملل كثيرة من أقوام ورثوها عن آبائهم وآخرين خائفين مكرهين عليها وآخرين يبتغون بها الدنيا ومنزلتها ومعيشتها، وكلهم يزعم أنه على صواب وهدى فاستبان لي أنهم بالهوى يحتجون وبه يتكلمون لا بالعدل. وقد وجدت آراء الناس مختلفة وأهواءهم متباينة وكلاً على كل راد وله عدو ومغتاب ولقوله مخالف.

فلما رأيت ذلك لم أجد إلى متابعة أحد منهم سبيلاً وعلمت أني إن صدّقت منهم أحدا بما لا علم لي به أكن مثل المصدق المخدوع.
باب
باب
عضو جديد
عضو جديد

عدد المساهمات : 4
نقاط : 334013
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty مثل المصدّق المخدوع

مُساهمة من طرف كليلة ودمنة الأحد مارس 22, 2015 1:17 am

زعموا أنه ذهب سارق حتى علا بيت رجل من الأغنياء ليلاً ومعه أصحابٌ له فاستيقظ صاحب البيت فأحسّ بهم، وعرف أنهم لم يعلوا ظهر البيوت تلك الساعة إلا لريب، فنبّه امرأته وقال لها رويداً، إني لأحسّ باللصوص قد علوا ظهر بيتنا فإني متناومٌ، فأيقظيني بصوت يسمعه مَن فوق البيت ثم نادي: يا صاحب البيت ألا تخبرني عن أموالك هذه الكثيرة وكنوزك من أين جمعتها. فإذا أبيت عليك فألحّي في السؤال. ففعلت المرأة ذلك وسألته كما أمرها واستمع اللصوص حديثهما فقال الرجل: يا أيتها المرأة قد ساقك القدر إلى رزق كثير فكلي واسكتي ولا تسألي عما لو أخبرتك به لم آمن أن يسمعه سامع فيكون في ذلك ما أكره وتكرهين. قالت المرأة: أخبرني أيها الرجل فلعمري ما يقربنا أحد يسمع كلامنا. قال: فإني أخبرك أني لم أجمع هذه الأموال وهذه الكنوز إلا من السرقة. قالت: وكيف جمعت هذه الأموال وهذه الكنوز من السرقة وأنت في أعين الناس عدل رضاً لا يتهمك أحد ولم يرتب بك.

قال: ذلك لعلم أصبته في علم السرقة فكان الأمر أوفق وأيسر من أن يتهمني أحد ويرتاب بي. قالت: وكيف ذلك؟ قال: كنت أذهب في الليلة المقمرة ومعي أصحابي حتى أعلوا ظهر البيت الذي أريد أن أسرق أهله وأنتهي إلى الكوّة التي يدخل منها ضوء القمر فأرقي بهذه الرقية "شولم شولم" سبع مرات ثم أعتنق الضوء فأنهبط به إلى البيت فلا يحس بوقعتي أحد، ثم أقوم في أصل الضوء فأعيد الرقية سبع مرات فلا يبقى في البيت مال ولا عِلقٌ إلا بدا لي وأمكنني أن أتناوله فآخذ من ذلك ما أحببت. ثم أعتنق الضوء وأعيد الرقية سبع مرات فأصعد إلى أصحابي وأحملهم ما معي ثم ننسلّ.

فلما سمع اللصوص ذلك فرحوا فرحاً شديداً وقالوا: لقد ظفرنا من هذا البيت بما هو خير لنا من المال الذي نحن مصيبوه منه، لقد أصبنا علما أذهب الله به عنا الخوف وأمّننا من السلطان. ثم أطالوا المكث حتى استيقنوا في أنفسهم أن صاحب البيت وامرأته قد ناما، فتقدم رئيسهم إلى مدخل الضوء من الكوة ثم قالك "شولم شولم" سبع مرات، ثم اعتنق الضوء لينزل به كما زعم فوقع في البيت منكّساً، ووثب الرجل بهراوة فضربه حتى أثخنه ثم قال له: من أنت؟ قال: أنا المصدق المخدوع وهذه ثمرة التصديق.

فلما تحرّزت من التصديق بما لا آمن أن يوقعني في الهلكة عدت للبحث عن الأديان والتماس العدل منها، فلم أجد عند أحد جواباً عما سألته عنه ولا فيما ابتدأني به شيئاً يحق عليّ في عقلي أن أصدق به فأتبعه. فقلت لما لم أجد ثقة آخذ منه فالرأي أن أتبع دين آبائي الذين وجدتهم عليه. فلما ذهبت ألتمس العذر لنفسي في ذلك لم أجد الثبوت على دين الآباء لي عذرا وقلت: إن كان هذا عذراً، فالساحر الذي وجد أباه ساحراً في عذر مع أشباهه، وذلك مما لا يحتمله العقل. وذكرت رجلاً كان فاحش الأكل يُعاب ذلك عليه فاعتذر بأن قال: هكذا كان يأكل آبائي وأجدادي.

فلم أجد على الثبوت على دين الآباء سبيلاً ولا في ذلك عذراً ورأيت التفرع للبحث عن الأديان مشكلاً تخوفت قرب الأجل وسرعة انقطاع الأمل، فقلت: أما أنا فلعلي أفارق الدنيا وشيكاً دون صالح الأعمال فيشغلني ترددي عن خير كنت أعمله ويكون أجلي دون بلوغ ما ألتمس به فيصيبني مثل الخادم والرجل.
كليلة ودمنة
كليلة ودمنة
عضو كريم
عضو كريم

عدد المساهمات : 15
نقاط : 334015
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty مثل الخادم والرجل

مُساهمة من طرف كليلة ودمنة الأحد مارس 22, 2015 1:18 am

زعموا أن رجلاً تواطأ مع خادم في بيت لأحد الأغنياء على أن يأتي البيت في كل ليلة يغيب صاحبه فيعطيه شيئاً من متاع سيده فيبيعه ويتشاطرا ثمنه. فاتفق ذات يوم أن غاب أهل البيت وبقي الخادم وحده فأنفذ فأخبره الرجل فأقبل. وفيما هما يجمعان المال إذ قرع الباب وعاد رب البيت على بغتة. وكان للبيت باب آخر لم يكن يعلمه الرجل وبقربه جبّ ماء. فقال الخادم للرجل: أسرع واخرج من الباب الذي عند الجب.

فانطلق الرجل ووجد الباب لكنه لم يجد الجب فرجع إلى الخادم وقال له: أما الباب فوجدته، وأما الجب فلم أجده. فقال الخادم: ويحك انجُ بنفسك ولا تكترث للجبّ. قال الرجل: كيف أذهب وقد خلطت عليّ فذكرت الجب وليس هناك. قال الخادم: دع عنك الحمق والتردد وفرّ عاجلاً. فلم يزل ينازعه حتى دخل رب البيت فأخذه وأوجعه ضرباً ثم دفعه إلى السلطان.

فلما خفت من التردد والتجوال رأيت أن لا أتعرض لما خفت من ذلك وأن أقتصر على كل عمل تشهد الأنفس على أنه صحيح وتوافق عليه الأديان. فكففت يدي عن الضرب والقتل والغضب والسرفة والخيانة وحصّنت نفسي من الفجور وحفظت لساني من الكذب ومن كل كلام فيه ضرر على أحد، وكففت لساني عن الشتم والعضيهة والخنا والبهتان والغيبة والسخري.

والتمست من قلبي بأن لا أتمنى لأحد سوءاً ولا أكذب بالبعث والقيامة الثواب والعقاب. وزايلت الأشرار بقلبي ولزمت الصلحاء والأخيار جهدي. ورأيت الصلاح ليس كمثله صاحب ولا قرين ورأيت مكسبه إذا وفّق له وأعان عليه يسيراً ووجدته أحنّ على صاحبه وأبرّ من الآباء والأمهات. ووجدته يدل على الخير ويشير بالنصح فعل الصديق بالصديق، ووجدته لا ينقص إذا أنفق منه صاحبه بل يزداد على الاستعمال والابتذال جدة حسنة. ووجدته لا خوف عليه من السلطان أن يسلبه ولا من شيء من الآفات، لا من الماء أن يغرّقه ولا من النار أن تحرقه ولا من اللصوص أن تسرقه ولا من شيء من السباع وجوارح الطير أن تمزقه. ووجدت الرجل الذي يزهد في الصلاح وعاقبته ويلهيه عن بذلك قليل ما هون فيه من حلاوة العاجل، إنما مثله فيما أنفذ فيه أيامه ويلهيه على ما ينفعه كمثل التاجر والضارب بالصنج.
كليلة ودمنة
كليلة ودمنة
عضو كريم
عضو كريم

عدد المساهمات : 15
نقاط : 334015
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty مثل التاجر والضارب بالصَّنج

مُساهمة من طرف كليلة ودمنة الأحد مارس 22, 2015 1:18 am


زعموا أن تاجراً كان له جوهرٌ كثيرٌ ثمينٌ، فاستأجر رجلا لثقبه وحمله بمئة دينار ليومه ذلك. فانطلق به إلى بيته، فلما قعد إذا هو بصنج موضوع في ناحية البيت فقال التاجر لصاحبه: هل تضرب بالصنج؟. قال: وفوق ذلك. قال: فدونك. فتناول الرجل الصنج وكان به ماهراً فلم يزل يُسمعه من صوت جيد وصوت مصيب حتى أمسى وترك سفط جوهره مفتوحاً واقبل على الضرب واللهو. فلما أمسى قال الرجل للتاجر: مُرْ بأجرتي. فقال: ما عملت شيئاً فتأخذ أجرته.

قال: عملت ما أمرتني أن أعمل. فوفاه مئة دينار وبقي جوهره غير مثقوب.

فلم أزدد في الدنيا وشهواتها نظراً إلاّ ازددت فيها زهادة فرأيت أن أعتصم بالتألّه والنسك ورأيت النسك يمهّد للمعاد كما يمهّد للولد أبواه ورأيته كالجنة الحريزة في دفع الشر الدائم الباقي، ورأيته الباب المفتوح إلى الجنة دار النعيم. ووجدت الناسك إذا فكّر تعلوه السكينة، فإذا تواضع وقنع واستغنى ورضي فلا يهم إذ خلع الدنيا فنجا من الشرور ورفض الشهوات فصار طاهراً وانعزل فكُفي الأحزان وطرح الحسد، فظهرت عليه المحبة وسخت نفسه عن كل فانٍ فاستكمل العقل وأبصر العاقبة فأمن الندامة ولم يذنب فسلم. فلم أزدد في أمر النسك نظراً إذا ازددت فيه رغبة حتى هممت أن أكون من أهله.

ثم تخوّفت ألا أصبر على عيش النساك وأن تضر بي العادة التي بها ربيت وغذيت ولم آمن إن أنا خلعت الدنيا وأخذت في النسك أن أضعف عن ذلك وأكون قد رفضت أعمالاً كنت أعملها قبل ذلك مما أرجو عائدتها، فيكون مثلي في ذلك كمثل الكلب الذي مرّ بنهر وفي فيه ضلع فرأى ظلّ الضّلع في الماء فأهوى ليأخذه فأهلك الذي كان في فيه ولم ينل الذي طمع فيه. فهبت النسك هيبة شديدة وخفت على نفسي الضجر وقلة الصبر وأردت الثبوت على حالتي التي كنت عليها.

ثم بدا لي أن أقيس بين ما أخاف وما أصبر عليه من الأذى والضيق في النسك وبين الذي يصيب صاحب الدنيا من البلاء فيها، وكان بيّنا عندي أنه ليس من شهوات الدنيا ولذاتها شيء إلا هو متحول أذى ومورث حزنا. فالدنيا كالماء المالح الذي ما يزداد صاحبه منه شرباً إلا ازداد عطشاً. وكالعظم يصيبه فيجد فيه ريح اللحم فلا يزال يلوكه لطلبه ذلك اللحم فيدمي فاه ثم لا يزداد له طلباً إلا ازداد لفيه إدماء. وكالحدأة التي تظفر بالبضعة من اللحم فيجتمع عليها الطير فلا تزال في تعب وهرب حتى تلفظ ما معها وقد أعيت وتعبت. وكالقلّة من العسل في أسفلها موت ذعاف. وكأحلام النائم التي تفرحه فإذا استيقظ انقطع الفرح عنه. وكالبرق الذي يضيء قليلاً ويذهب وشيكاً ويبقى راجيه في الظلام مقيماً. وكدودة الإبريسم لا يزداد الإبريسم على نفسها لفاً إلا ازدادت من الخروج منه بعداً.

فلما فكّرت في هذه الأمور راجعت نفسي في اختيار النسك ثم خاصمتني فقلت: ما يجوّز هذا لي أن أفرّ من الدنيا إلى النسك إذا فكّرت في شرورها، ثم أفر من النسك في الدنيا إذا تذكّرت ما فيه من المشقة والضيق فلا أزال في تصرف لا أبرم رأياً ولا أعزم على أمر كالقاضي الذي سمع من أول الخصمين فقضى له على الآخر ثم سمع الآخر فقضى له على الأول.

ونظرت في الدنيا يهولني من أذى النسك وضيقه فقلت: ما أصغر هذا وأقله في جنب روح الأبد وراحته. فنظرت فيما تشره إليه النفس من لذة الدنيا فقلت: ما أمرّ هذا وأوخمه وهو يدفع إلى الشر وهوانه. وقلت: كيف لا يستحلي الرجل مرارة قليلة تعقبها حلاوة طويلة وكيف لا يستمر حلاوة قليلة تؤديه إلى مرارة كثيرة دائمة. وقلت: لو أن رجلاً عرض عليه أن يعيش مئة سنة لا يأتي عليه من ذلك يوم إلا قطّع فيه قطعا، ثم أحيي، ثم أعيد عليه مثل ذلك غير أنه شرط له إذا استوفى المئة سنة نجا من كل ألم فليس يكون حقيقاً إذا صار إلى الأمن والسرور ألاً يرى تلك السنين شيئاَ.

أو ليس الإنسان يتقلب في عذاب الدنيا من حين مولده إلى أن يستوفي أيام حياته، فإذا كان جنينا في بطن أمه كان في أضيق الحبوس وأظلمها. وإذا وقع على الأرض فأصابته ريح أو لمسته يد وجد لذلك من الألم ما لا يجده الإنسان الذي قد سُلخ جلده. ثم هو في ألوان من العذاب إذا جاع وليس به استغاثة مهما يلقى من الرفع والوضع واللف والحل والدهن. وإذا نوّم على ظهره لم يستطع تقلّباً مع أصناف من العذاب ما دام رضيعاً.

فإذا انقلت من عذاب الرضاع أخذ في عذاب الأدب فأذيق منه ألواناً من عنف المعلم وضجر الدرس وسأم الكتابة. ثم له من الدواء والحمية والأوجاع والأسقام أوفى حظ. فإذا أدرك لحقه هم الأهل وجمع المال وتربية الولد ولعب به الشره والحرص ومخاطرة الطلب والسعي. وفي كل هذا تتقلب معه أعداؤه الأربعة، أي المرّة والدمة والبلغم والريح والسم المميت والحيّات اللادغة مع خوف السباع والهوام وخوف الحر والبرد والأمطار والرياح. ثم ألوان العذاب من الهرم لمن يبلغه. فلوم لم يخف من هذه الأمور شيئاً وشرط له بالأمن من ذلك كله فوثق بالسلامة منها فلم يعتبر إلا في الساعة التي يحضره فيها الموت ويفارق فيها الدنيا وما هو نازل به تلك الساعة من فراق الأهل والأحبة والأقارب وكل مضنون به من الدنيا والإشراف على هول المطّلع الفظيع المعضل بعد الموت، لكان حقيقاً أن يعدّ عاجزاً مفرّطاً محتملاً للإثم إن لم يعمل لنفسه ويحتل لها جهد حيلته، ويرفض ما يشغله ويلهيه من شهوات الدنيا وغرورها لا سيما في هذا الزمان الشبيه بالصافي وهو كدر.

فإنه وإن كان الملك قد جعله الله سعيداً ميمون النقيبة حازم الرأي رفيع الهمة بليغ الفحص، عدلا براً جواداً صدوقاً شكوراً، رحب الذراع متفقداّ للحقوق ومواظباً مستمراً فهماً نفاعاً ساكناً بصيراً حليما رؤوفاً رحيماً رفيقاً، عالماً بالناس والأمور، حباً للعلم والعلماء والأخيار، شديداً على الظلمة، غير جبان ولا خفيف القيادة، رفيقاً بالتوسع على الرعية فيما يحبون والدفع عنهم لما يكرهون، فإنا على ذلك قد نرى الزمان مدبراً بكل مكان. فكأن أمر الصدق قد تورعت من الناس فأصبح مفقودا ما كان غزيراً فقده وموجوداً ما كان ضاراً وجوده. وكأن الخير أصبح ذابلاً وأصبح الشر ناضراً. وكأن الغيّ أقبل ضاحكا وأدبر الرشد باكياً، وكأن العدل أصبح غائراً وأصبح الجور غالباً، وكأن الكرم أصبح مدفوناً وأصبح الجهل منشوراً، وكأن اللؤم أصبح أشراً وأصبح الكرم موطوءاً، وكأن الودّ أصبح مقطوعاً والبغضاء والحسد موصولاً، وكأن الكرامة قد سلبت من الصالحين وتوخى بها الأشرار، وكأن الخبّ أصبح مستيقظاً والوفاء نائماً، وكأن الكذب أصبح مثمراً والصدق قاحلاً يابساً، وكأن العدل ولّى غائراً وأصبح الباطل مرحاً، وكأن اتباع الهوى وإضاعة الحكم أصبح بالحكماء، موكّلا وأصبح المظلوم بالخسف مقراً والظالم لنفسه مستطيلا، وكأن الحرص أصبح فارغاً فاه من كل جهاد يتلقفه ما قرب منه وما بعد وأصبح الرضا مفقوداً مهجولا، وكأن الأشرار أضحوا يسامون السماء وأصبح الأخيار يريدون مطبق الأرض، وأصبحت المروءة مقذوفاً بها من أعلى شُرفٍ إلى أسفل سافلين، وأصبحت الدناءة مكرّمة ممكّنة، واصبح السلطان منتقلاً من أهل الفضل إلى أهل النقص، وأصبحت الدنيا جذلة مسرورة مرحة مختالة تقول: غيّبت الحسنات وأظهرت السيئات.

فلما فكّرت في الدنيا وأمورها وأن هذا الإنسان هو أشرف الخلق وأفضله فيها، ثم هو على منزله لا يتقلّب إلا في شر ولا يوصف إلا به، وعرفت أنه ليس من أحد له أدنى عقل إلا وهو يعقل هذا ثم لا يحتاط لنفسه ولا يعمل لنجاتها. فعجبت من ذلك كل العجب ونظرت فإذا هو لا يمنعه من ذلك إلا لذة صغيرة حقيرة طفيفة من الشم والطعم واللمس، لعله يصيب منها لطيفاً أو يتمنى منها طفيفاً لا يوصف قله مع سرعة انقطاع. فذلك الذي يشغله عن الاهتمام بأمر نفسه وطلب النجاة لها.
كليلة ودمنة
كليلة ودمنة
عضو كريم
عضو كريم

عدد المساهمات : 15
نقاط : 334015
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty مثل الرجل والتنين

مُساهمة من طرف كليلة ودمنة الأحد مارس 22, 2015 1:19 am

فالتمست للإنسان في ذلك مثلاً فإذا مثله مثل رجل ألجأه خوف إلى بئر فتدلى فيها وتعلق بغصن بأعلى شفيرها فوقعت رجلاه على عمدها فنظر فإذا هي حيات أربع قد أطلعن رؤوسهن من أحجاهن. ونظر إلى أسفل البئر فإذا هو بتنين فاغر فاه نحوه. ورفع رأسه إلى الغصن فإذا هي أصله جرذان أبيض وأسود يقرضان الغصن دائبين لا يفتران. فبينما هو في النظر والاجتهاد لنفسه وابتغاء الحيلة في ذلك، إذ نظر فإذا قريب منه نحلٌ قد صنعن شيئاً من العسل فأراد أن يأكل منه قليلا فشغل قلبه عن التفكر في أمره والتماس حيلة ينجي بها نفسه فنسي أن يذكر الجرذين الدائبين في قطع الغصن، وأنها إذا قطعاه وقع ف فِي التنين، فلم يزل لاهياً غافلاً حتى هلك.

فشبهت البئر بالدنيا المملوءة إفكاً وبلايا وشرورا ومخاوف. وشبهت الحيات الأربع بالأخلاط الأربعة التي هي في بدن الإنسان. فمتى ما هاج منها شيء كان كحمة الأفعى والسم المميت. وشبهت الجرذين بالليل والنهار. وشبهت قرضهما للغصن دائبين دور الليل والنهار في إفناء الأجل الذي هو حصن الحياة. وشبهت التنين بالموت الذي لا بد منه. وشبهت العسل بهذه الحلاوة القليلة التي يرى الإنسان ويشم ويطعم ويسمع ويلمس فتشغله عن نفسه وتنسيه أمره وتلهيه عن شأنه وتصرفه عن سبل النجاة. فصار أمري إلى الرضا بما لي وإصلاح ما استطعت إصلاحه من عملي لعلي أصادف فيما أمامي زماناً أصيب فيه دللاً على هداي وسلطاناً على نفسي وأعواناً على أمري، فأقمت على هذه الحال، وانصرفت من الهند إلى بلادي وقد انتسخت من كتبها كتبا كثيرة منها هذا الكتاب.
كليلة ودمنة
كليلة ودمنة
عضو كريم
عضو كريم

عدد المساهمات : 15
نقاط : 334015
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty رد: كليلة ودمنة

مُساهمة من طرف حكواتي الأحد مارس 22, 2015 1:20 am

ابتداء كليلة ودمنة, هو مما وضعته علماء الهند من ضرب الأمثال والأحاديث التي التمسوا أن يدخلوا فيها أبلغ ما يجدون من القول في النحو الذي أرادوا. ولم تزل العلماء من كل ملة وأهل كل لسان يلتمسون أن يعقل عنهم ما بنوا لذلك بصنوف من الحيل ويبتغون في إخراج ما عندهم من العقل حتى كان من تلك الحيل وضع بليغ الكلام ومتقنه على أفواه البهائم والطير، فاجتمع لهم بذلك خلال. أما هو فوجدوا منصرفاً في القول وشعاباً يأخذون فيها، وقد جمع هذا الكتاب لهواً وحكمة فاجتباه الحكماء لحكمته والسخفاء للهوه. فأما المتعلمون من الأحداث وغيرهم فنشطوا لعلمه وخفّ عليهم حفظه. فإذا خال الحدث واجتمع له الفعل وتدبّر المتدبر ما كان مما صار مقيداً مريوباً في صدره، وهو لا يدري ما هو عرف أنه قد ظفر من ذلك بكنوز عظام، فكان كالرجل الذي يدرك حين يدرك فيجد أباه قد كنز له كنوزاً من الذهب وعقد له عقدا استغنى به عن استقبال السعي والطلب. ولم يكن إذ كنزت صنوف أصول العلم ثم كثرت فروع كل صنف منها حتى لا يستكمل منها شيء تدبّر أن يكنز العلل التي تجري عليها أقاويل العلماء.

فمن قرأ هذا الكتاب فليعرف الوجه الذي وضع عليه ولا يكن همه بلوغ آخره ليعرف إلى أية غاية يجري مؤلفه فيه، وأي شيء يخشى منه عندما نسبه إلى البهائم وأضافه إلى غير مفصح وغير ذلك من الأوضاع التي جعلها مثالاً وأمثالاً. فإن قارئه متى يفعل ذلك ولم يدر ما أريد بتلك المعاني ولا أي ثمرة يجتنى منها ولا أية نتيجة تحصل له من مقدمات ما يصفه هذا الكتاب، فإنه ولو استتم قراءته إلى آخره دون معرفة ما يقرأ منه، لم يعد عليه شيء يرجع إليه نفعه.
حكواتي
حكواتي
عضو جديد
عضو جديد

عدد المساهمات : 1
نقاط : 334001
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty مثل المكتشف الكنز

مُساهمة من طرف كليلة ودمنة الأحد مارس 22, 2015 1:21 am

ومن استكثر من جمع العلوم وقراءة الكتب من غير إعمال الروية فيما يقرأه كان خليقاً أن لا يصيبه إلا كما أصاب الرجل الذي زعمت العلماء أنه اجتاز ببعض المفاوز فظهرت له آثار كنوز، فجعل يحفز ويطلب فوقع على شيء كثير من عين وورق، فقال في نفسه: إن أخذت في نقل هذا المال كان إخراجي له قد قطعني الاشتغال بنقله عن اللذة بما أصيب منه، ولكن استأجر قوماً يحملونه إلى منزلي وأكون أنا آخرهم ولا أبقي ورائي قوماً يحملونه إلى منزلي وأكون أنا آخرهم ولا أبقي ورائي شيئاً أشغل فكري بنقله، وأكون قد استظهرت في إراحة بدني عن الكد بيسير أجرة أعطيها لهم. ثم جاء بالحمالين فجعل يسلّم إلى كل واحد منهم ما يقدر على حمله ويقول له: اذهب به إلى منزلي. فينطلق به الحمّال إلى منزل نفسه فيغدر به، حتى إذا لم يبق من الكنز شيء انطلق إلى منزله فلم ير فيه من المال شيئاً ووجد كل واحد من الحمالين قد فاز بما حمله لنفسه، ولم يكن له من ذلك العناء والتعب لأنه لم يفكر في آخر أمره.
كليلة ودمنة
كليلة ودمنة
عضو كريم
عضو كريم

عدد المساهمات : 15
نقاط : 334015
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty مثل الجوز الصحيح والصحيفة الصفراء

مُساهمة من طرف كليلة ودمنة الأحد مارس 22, 2015 1:22 am

وكذلك من يقرأ هذا الكتاب ولم يعلم غرضه ظاهراً وباطناً لم ينتفع بما بدا له من خطّه ونقشه، كما لو قدّموا لرجل جوزاّ صحيحاً لم ينتفع به إلا أن يكسره وينتفع بما فيه. وكان كالرجل الذي طلب علم الفصيح فرسم له بعض أصدقائه صحيفة صفراء فيها فيصيح الكلام وتصاريفه ووجوهه، فانصرف المتعلم إلى منزله وجعل يكثر قراءتها فلا يقف على معانيها ولا يعرف ما فيها. ثم أنه جلس ذات يوم في محفل من أهل العلم والأدب والفطنة وهو يظن أنه قد اكتفى بما فازه من تلك الصحيفة فأخذ في محاورتهم، فجرت له كلمة أخطأ فيها فقال به عضهم: إنك قد أخطأت فيها والوجه غير ما تكلمت به. فقال: كيف أخطئ وقد قرأت الصحيفة الصفراء وهي في منزلي. فكانت مقالته أوجب الحجة عليه وزاده ذلك توهاً من الجهل وبعداً من الأدب.
كليلة ودمنة
كليلة ودمنة
عضو كريم
عضو كريم

عدد المساهمات : 15
نقاط : 334015
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty مثل الرجل الصابر على اللص

مُساهمة من طرف كليلة ودمنة الأحد مارس 22, 2015 1:23 am

ثم إن العاقل إذا فهم هذا الكتاب وتفقهه وبلغ نهايته وعلم ما فيه، ينبغي له أن يعمل بما علمه منه لينتفع به ويجعله مثالاً لا يحيد عنه. فإذا لم يفعل ذلك كان مثله مثل الرجل الذي يقال إن سارقاً تسوّر عليه وهو نائم في منزله فعلم به فقال: والله لأسكتنّ حتى أنظر ما يصنع ولا أذعره ولا أعلمه أني قد علمت به، فإذا بلغ مراده قمت إليه فنغّصت ذلك عليه. ثم أمسك عنه وجعل السارق يطوف، فطال تردده على الرجل في جمع ما يجده فغلبه النعاس فنام، وفرغ اللص مما أراد فأمكنه الذهاب. ثم استيقظ الرجل فوجد اللص قد فاز بما أخذ من المتاع فأقبل على نفسه باللوم حين عرف بأنه لم ينتفع بعلم موضع اللص إذ لم يستعمل في أمره ما يجب.

ويقال أن العلم لا يتم إلا بالعمل، وإن العلم كالشجرة، والعمل فيها كالثمرة، فليلزم صاحب العلم القيام بالعمل لينتفع به، وإن لم يستعمل ما يعلم فلا يسمّى عالماً. ولو أن رجلا كان عالما بطريق مخوف ثم سلكه على علم به يسمى جاهلاً. ولعله يكون قد حاسب نفسه فوجدها قد ركبت أهواءً وهجمت به فيما هو أعرف بضررها فيه وأذاها به من ذلك السالك في الطريق المخوف الذي عرفه. ومن ركب هواه ورفض ما ينبغي أن يعمل بما جرّبه أو علّمه غيره، كان كالمريض العلام برديء الطعام والشراب وجيّده وخفيفه وثقيله ثم يحمله الشره على رديئه وترك استعمال ما هو أقرب إلى النجاة والتخلص من علته.
كليلة ودمنة
كليلة ودمنة
عضو كريم
عضو كريم

عدد المساهمات : 15
نقاط : 334015
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty مثل البصير والأعمى

مُساهمة من طرف كليلة ودمنة الأحد مارس 22, 2015 1:23 am

وأقل الناس عذراً في اجتناب محمود الفعال وارتكاب مذمومه من أبصره وميّزه وعرف فضل بعضه على بعض. كما أنه لو كان رجلان أحدهما بصير والآخر أعمى ساقهما الأجل إلى حفرة فوقعا فيها، كانا إذا صارا جميعاً في قعرها بمنزلة واحدة في الهلكة. غير أن البصير أقل عذراً عند الناس من الضرير، إذ كانت له عينان يبصر بهما. وذاك بما صار إليه جاهل غير عارف.

وعلى العالم أن يبدأ بنفسه فيؤدبها بعلمه ولا تكون غايته اقتناءه العلم لمعاونة غيره، فيكون كالعين التي يشرب الناس ماءها وليس لها في ذلك شيء من المنفعة، وكدودة القز التي تحكم صنعته ولا تنتفع به.

فقد ينبغي لمن طلب العلم أن يبدأ بعظة نفسه. ثم عليه بعد ذلك أن يقبسه، فإن خلالاً ينبغي لصالح الدنيا أن يقتبسها، منا اتخاذ المعروف وأن لا يعيب أحداً بشيء هو فيه، فيكون كالأعمى الذي يعبر الأعمى بعماه. وينبغي لمن طلب أمراً أن يكون له فيه غاية يعمل بها ويقف عندها ولا يتمادى في الطلب. فإنه يقال من سار إلى غير غاية فيوشك أن تنقطع به مطيّته، وأنه كان حقيقاً أن لا يعنّي نفسه على طلب ما لا حدّ له وما لم ينله أحد قبله، ولا يتأسف عليه ولا يكون لدنياه مؤثراً على آخرته فإنه من لا يعلق قلبه بالعنايات قلت حسرته عند مفارقتها. وقد يقال في أمرين إنهما يجملان بكل أحد، وهما النسك والمال، وفي أمرين إنهما لا يجملان بكل أحد: الملك أن يشارك في ملكه والرجل أن يشارك في زوجته. فالخلتان الأوليان مثلهما مثل النار التي تحرق كل حطب يقذف فيها. والخلّتان الأخريان كالماء والنار اللذين لا يمكن اجتماعهما.
كليلة ودمنة
كليلة ودمنة
عضو كريم
عضو كريم

عدد المساهمات : 15
نقاط : 334015
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty مثل اللص والفقير

مُساهمة من طرف كليلة ودمنة الأحد مارس 22, 2015 1:24 am

وليس ينبغي للعاقل أن يغبط أحداً إذا ساق الله له صنيعاً. فلعلّ الله يرزقه مثله من حيث لا يدري. ومن أمثال ذلك أن رجلاً كانت به فاقةُ وعري، فألجأه الأمر إلى أن سأل أقاربه وأصدقاءه فلم يجد عند أحدهم فضلاً يعود به عليه. فبينما هو ذات ليلةٍ في منزله إذ أبصر سارقاً يجول في منزله، فقال: والله ما في منزلي شيء أخاف عليه. فاجتهد السارق جهده، فبينما هو يجول إذ وقعت يده على خابيةٍ فيها حنظة، فقال: والله ما أحبّ أن يكون عنائي الليلة باطلاً، ولعلي لا أصل إلى موضع آخر، ولكن أحمل هذه الحنطة، فهي خيرٌ من الرجوع بغير شيء. ثم بسط رداءه ليصبّ عليه الحنطة، فقال الرجل: ليس لي على هذا صبر، أيذهب هذا بهذه الحنطة وليس ورائي سواها، فيجتمع عليّ العريّ وذهاب ما كنت أقتات به، ولا تجتمع والله هاتان الخلتان على أحد إلا أهلكتاه. ثم صاح بالسارق وأخذ هراوة كانت عند رأسه. فلم يكن للسارق إلا الهرب منه، فترك رداءه ونجا بنفسه، فأخذه الرجل وغدا كاسياً.

وليس ينبغي أن يركن إلى مثل هذا المثل ويدع ما يجب عليه من العمل والسعي لصلاح معاشه، ولا أن ينظر إلى من تؤاتيه المقادير وتساعده على غير التماس منه. فإن أولئك في الناس قليل، والجمهور منهم من أتعب نفسه في الكدّ والسعي فيما يصلح أمره وينال به ما أراد. وينبغي أن يكون حرصه على ما طاب كسبه وحسن نفعه، ولا يعرّض نفسه لما يجلب عليه العناء والشقاء، فيكون كالحمامة التي تفرّخ الفراخ للذبح ولا يمنعها ذلك أن تعود فتفرخ في موضعها وتقيم بمكانها وتؤخذ فراخها ثانية فتذبح.

وقد يقال إن الله تعالى قد جعل لكل شيء سبباً، ومن تجاوز في الأشياء حدها أوشك أن يلحقه تقصير عن بلوغها. ويقال من كان سعيه لآخرته ودنياه فحياته له وعليه. ويقال في ثلاثة أشياء يجب على صاحب الدنيا إصلاحها فيبذل جهده فيها: منها أمر معيشته، ومنها ما بينه وبين الناس، ومنها ما يكسبه الذكر الجميل بعده. وقد قيل في أمور كنّ فيه لم يستقم له عمل، منها التواني، ومنها تضييع الفرص، ومنها التصديق لكلّ مخبر بشيءٍ عقله ولا يعرف استقامته فيصدّقه.

وينبغي للعاقل أن يكون لهواه متهماً ولا يقبل من كلّ أحد حديثاً لا يتمادى في الخطإ إذا التبس عليه أمره حتى يتبين له الصواب وتتوضح له الحقيقة، ويكون كالرجل الذي يجوز عن الطريق فيستمرّ على الضلال ولا يزداد في السير إلا جهداً وعن القصد إلا بعداً. وكالرجل الذي تقذى عيناه ولا يحكّهما حتى ربما كان ذلك الحك سبباً لذهابهما. وعلى العاقل أن لا يصدّق بالقضاء والقدر ويأخذ بالحزم، ويحب للناس ما يحبّه لنفسه، ولا يلتمس صلاح نفسه بفساد غيره، فإنه من فعل ذلك كان خليقاً أن يصبه ما أصاب التاجر من رفيقه.
كليلة ودمنة
كليلة ودمنة
عضو كريم
عضو كريم

عدد المساهمات : 15
نقاط : 334015
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty مثل الشريك المحتال

مُساهمة من طرف كليلة ودمنة الأحد مارس 22, 2015 1:24 am

يقال أنه كان رجل تاجر وله شريك فاستأجرا حانوتاً وجعلا فيه متاعهما، وكان أحدهما قريب المنزل إلى الحنانوت فأضمر في نفسه أن يسرق عِدلا من أعدال رفيقه. وفكّر في الحيلة في ذلك، وقال: إن أتيت ليلاً لا آمن أن أحمل عدلا من أعدالي أو رزمة من متاعي ولا أعرفها فيذهب عنائي وتعبي باطلا. واخذ رداءه وألقاه على العِدل الذي أضمر أخذه ثم مضى إلى منزله.

فجاء شريكه بعد ذلك ليصلح أعداله، فقال: "والله هذا رداء صاحبي ولا أحسبه إلا قد نسيه، وأما الرأي فأن لا أعده ها هنا بل أجعله على أعداله فلعله يسبقني إلى الحانوت فيجده حيث يحب. ثم ألقى الرداء على عدل من أعداله وقفل الحانوت وانصرف.

فلما كان الليل جاء رفيقه ومعه رجل قد واطأه على ما عزم عليه وضمن له جعلا على حمله، فصار إلى الحانوت والتمس الرداء في الظلمة فوجده على أحد الأعدال فاحتمله بعد الجهد الجهيد حتى أخرجه هو والرجل. ولم يزالا يتراوحان على حمله حتى أتيا به منزله ورمى نفسه تعباً. فلما أصبح نظر فإذا هو بعض أعداله فندم أشد الندم. ثم انطلق نحو الحانوت فوجد رقيقه قد سبقه وفتح الباب وتفقد العِدل فلم يجده، فاغتمّ لذلك غمّاً شديداً، وقال: واسوأتاه من رفيقي الصالح الذي ائتمنتني على ماله وخلّفني وانصرف، ماذا يكون حالي عنده ولا شك في تهمته إياي. ثم أتى رفيقه فوجده مغتمّاً فسأله عن حاله فقال له: إني قد فقدت عِدلاً من أعدالك ولا أعلم سببه ولا أشك تهمتك إياي، وإني قد وظّنت نفسي على غرامته.

فقال له: لا تغتمّ يا أخي، فإن الخيانة شر ما عمله الإنسان. والمكر والخديعة لا يؤديان إلى الخير وصاحبهما مغرور أبدا، وما عاد وبال البغي إلا على صاحبه. وأنا أحد من مكر وخدع واحتال. فقال له رفيقه: وكيف كان ذلك؟ فأخبره بأمره وقص عليه قصته، فقال له صديقه: ما كان مثلك إلا كمثل اللص المخدوع والتاجر. قال: وكيف كان ذلك؟
كليلة ودمنة
كليلة ودمنة
عضو كريم
عضو كريم

عدد المساهمات : 15
نقاط : 334015
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty مثل اللص المخدوع

مُساهمة من طرف كليلة ودمنة الأحد مارس 22, 2015 1:25 am

قال: زعموا أنه كان تاجر في منزله خابيتان، إحداهما مملوءة حنطة والأخرى مملوءة ذهبا. فترقبه بعض اللصوص زماناً، حتى إذا كان في بعض الأيام تشاغل التاجر عن المنزل في بعض أشغاله فتغفله اللص ودخل المنزل وكمن في بعض نواحيه. فما همّ بأخذ الخابية التي فيها الدنانير أخذ التي فيها الحنطة فاحتملها. ولم يزل في كد وتعب حتى أتى منزله. فلما فتحها وعلم ما فيها ندم.

فقال له الخائن: ما بعّدت المثل ولا تجاوزت القياس وقد اعترفت بذنبي، غير أن النفس الردئية تأمر بالفحشاء. فقبل الرجل معذرته وأضرب عن توبيخه وعن الثقة به، وندم هو عندما عاين سوء فعله وتقدم جهله.

وقد ينبغي للناظر في كتابنا هذا أن لا يجعل غايته التصفح لتزاويقه، بل ليشرف على ما تضمن من الأمثال حتى يأتي على آخره ويقف عند كل مثل وكلمة ويعمل فيها رويته.
كليلة ودمنة
كليلة ودمنة
عضو كريم
عضو كريم

عدد المساهمات : 15
نقاط : 334015
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty مثل الأخ الصغير والمُحسن إلى أخويه

مُساهمة من طرف كليلة ودمنة الأحد مارس 22, 2015 1:26 am

ويكون كأحد الإخوة الثلاثة الذي خلّف لهم أبوهم المال الكثير فتنازعوه بينهم. فأما الاثنان الكبيران فإنهما أسرعا في إتلافه وإنفاقه في غير وجهه. وأما الصغير فإنه عندما نظر إلى ما صار إليه أخواه من إسرافهما وخلوّهما من المال، أقبل على نفسه يشاورهما وتفكر في سر تصرف أخويه وقال: يا نفس إنما المال يطلبه صاحبه ويجمعه في كل وجهٍ لبقاء حاله وصلاح دنياه وشرف منزلته في أعين الناس واستغنائه عما في أيديهم وصرفه في وجهه من صلة الرحم والإنفاق على الولد والإفضال على الإخوان. فمن كان له مال ولا ينفقه، كان كالذي يعد فقيراً وإن كان موسراً. وإن هو أحسن إمساكه والقيام عليه، لم يعدم الأمرين جميعاً من دنيا تضاف إليه وحمدٍ يبقى عليه. ومتى قصد على حسرة وندامة.

وليكن الرأي في إمساك هذا المال بأن أعين أخويّ وينفعني الله تعالى به، وإنما هو مال أبي وأبيهما، وإن أولى الإنفاق صلة الرحم وإن بعدت فكيف بأخوي.

وكذلك يجب على قارئ هذا الكتاب أن يديم النظر فيه ويلتمس جواهر معانيه ولا يظن أن مغزاه إنما هو الإخبار عن حيلة بهيمتين أو محاورة سبع لثور، فينصرف بذلك عن الغرض المقصود، ويكون مثله مثل الصياد والصدقة.
كليلة ودمنة
كليلة ودمنة
عضو كريم
عضو كريم

عدد المساهمات : 15
نقاط : 334015
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty مثل الصياد والصدَفة

مُساهمة من طرف كليلة ودمنة الأحد مارس 22, 2015 1:26 am

كان صياد في بعض الخلجان يصيد ذات يوم في الماء إذ أبصر صَدَفةً فتوهمها شيئاً، فألقى شبكته فاشتملت على سمكة كانت قريبا منها فخلاها وقذف نفسه في الماء ليأخذ الصدفة. فما أخرجها وجدها فارغة فندم على ما في يده وتأسف على ما فاته. ولما كان في اليوم الثاني تنحى عن ذلك المكان ورمى شبكته فأصاب حوتاً صغيراً فحاول أخذه ورأى أيضاً صدفة سنيّة فلم يلتفت إليها وساء ظنه بها وتركها. فاجتاز بعض الصيادين بذلك المكان فرآها وأخذها فوجد فيها درة تساوي مبلغاً وافراً.

وكذلك الجهال على إغفال أمر التفكّر والاغترار في أمر هذا الكتاب وترك الوقوف على أسرار معانيه والأخذ بظاهره دون الأخذ بباطنه. فقد قالت العلماء: إن مثل هذا الرجل الذي يظفر بعلم الفلسفة ويصرف همه إلى ابواب الهزل، كرجل أصاب روضة هواؤها صحيح وتربتها طيبة فزرعها وسقاها حتى إذا قرب خيرها وأينعت، تشاغل عن ثمرها بجمع ما فيها من الزهر وقطع الشوك فأهلك بتشاغله ما كان أحسن فائدة وأجمل عائدة.

وينبغي للناظر في هذا الكتاب ومقتنيه أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أقسام وأغراض: أحدهما ما قصد من وضعه على ألسن البهائم غير الناطقة ليتسارع إلى قراءته واقتنائه أهل الهزل من الشبان فيستميل به قلوبهم، لأن هذا هو الغرض بالنوادر من الحيوانات. والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الألوان والأصباغ ليكون أنساً لقلوب الملوك ويكون حرصهم أشد للنزهة في تلك الصور. والثالث أن يكون على هذه الصفة فيتخذه الملوك والسوقة فيكثر بذلك انتساخه ولا يبطل، فيخلق على مرور الأيام بل ينتفع بذلك المصور والناسخ أبدا.

والغرض الرابع، وهو الأقصى، وذلك يخص الفيلسوف خاصة، أعني الوقوف على أسرار معاني الكتاب الباطنة.
كليلة ودمنة
كليلة ودمنة
عضو كريم
عضو كريم

عدد المساهمات : 15
نقاط : 334015
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty الأسد والثور

مُساهمة من طرف باب الأحد مارس 22, 2015 1:27 am

قال دبشليم ملك الهند لبيدبا رأس الفلاسفة: اضرب لي مثل الرجلين المتحابين يقطع بينهما الكذوب الخائن ويحملهما على العداوة.

قال بيدبا: إذا ابتليَ الرجلان المتحابان بأن يدخل بينهما الكذوب الخائن تقاطعا وتدابرا.
باب
باب
عضو جديد
عضو جديد

عدد المساهمات : 4
نقاط : 334013
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty مثل التاجر وبنيه

مُساهمة من طرف كليلة ودمنة الأحد مارس 22, 2015 1:28 am

كان في أرض دستبا تاجر مكثرٌ وكان له بنون. فلما أدركوا أسرعوا في إتلاف مال أبيهم ولم يحترفوا حرفة يصيبون بها مالاً. فلامهم أبوهم ووعظهم فكان من عظته لهم أن قال: يابنيِّ، إن صاحب الدنيا يطلب ثلاثة أمور لن يدركها إلا بأربعة أشياء. أما الثلاثة التي تطلب فالسعة في المعيشة والمنزلة عند الناس والبلغة إلى الآخرة. وأما الأربعة التي لا تصاب الثلاثة إلا بها فاكتساب المال من معروف وجهه، ثم حسن القيام على ما اكتسب منه والتثمير له بعد اكتسابه، ثم إنفاقه فيما يصلح به المرء معيشته ويرضي به الأهل والإخوان، ويعود عليه في الآخرة نفعه, ثم التوقي لجميع الآفات جهده. فمن أضاع شيئاً من هذه الخلال الأربع لم يدرك ما أراده، لأنه إن لم يكن ذا مال وذا اكتساب، ثم لم يصلح ماله ولم يحسن القيام عليه أوشك أن ينفذ ويبقى بلا مال. وإن هو أنفقه ولم يثمّر لم تمنعه قلة الإنفاق من سرعة النفاد كالكحل الذي إنما يؤخذ منه على الميل مثل الغبار، ثم هو مع ذلك سريع النفاذ. وإن هو اكتسبه وأصلحه وثمّره ثم أمسك عن إنفاقه في وجوهه ومنافعه كان ممن يعد فقيراً لا مال له، ثم لم يمنع ذلك أن يفارقه ويذهب حيث لا يريد بالمقادير والعلل، كمحبس الماء الذي لا يزال ينصبّ إليه ولم يكن له مغيض ومخرج يخرج منه بقدر ما يفضل عنه انبثق بثقاً لا يصلح، فذهب الماء ضياعاً وفساداً.

ثم إن بني التاجر اتعظوا وأخذوا بأمر أبيهم فانطلق كبيرهم في تجارة متوجهاً إلى أرض يقال لها متور. فمر على طريقه ذلك بمكان فيه وحل شديد ومعه عجله يجرها ثوران يقال لأحدهما شتربة وللأخر بندبة. فوحل شتربة في ذلك الوحل فعالجه الرجل وأعوانه فلم يقدروا على إخراجه، فذهب التاجر وخلّف عنده رجلا وأمره أن يقوم عليه أياماً حتى إذا نشف الوحل أخرجه وأتبعه به.

فلما أن كان الغد من ذلك اليوم ضجر الرجل بمكانه فلحق بالتاجر وترك الثور وأخبره أنه قد مات، وقال له إن الإنسان إذا انقضت مدته وحانت منيته فهو وإن اجتهد في التوقي من الأمور التي يخاف فيها على نفسه الهلاك لم يغنِ ذلك عنه شيئاً وربما عاد اجتهاده في توقيه وحذره وبالاً عليه.
كليلة ودمنة
كليلة ودمنة
عضو كريم
عضو كريم

عدد المساهمات : 15
نقاط : 334015
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 كليلة ودمنة Empty مثل الرجل الهارب من الموت

مُساهمة من طرف كليلة ودمنة الأحد مارس 22, 2015 1:29 am

كالذي قيل إن رجلاً سلك مفازة فيها خوف من السباع وكان الرجل خبيراً بوعث تلك الأرج وخوفها. فلما سار غير بعيد اعترض له ذئب من أحد الذئاب وأضراها. فلما رأى الرجل أن الذئب قاصد نحوه اشتد وجعله ونظر يميناً وشمالاً ليجد موضعاً يتحرّز فيه من الذئب فعاين قرية على شاطئ نهر خلف واد فقصدها.

فلما انتهى إلى النهر لم يجد عليه قنطرة ليقطعه والذئب كان يدركه فقال: كيف أمتنع من الذئب والنهر عميق وأنا لا أحسن السباحة على أني ألقي نفسي في الماء. فلما نزل في النهر كاد يغرق فرآه قوم من أهل القرية فأرسلوا إليه من استخرجه وقد أشرف على الهلكة فنجا من الذئب ومن الغرق. ثم رأى على شاطئ الوادي بيتاً منفرداً فقال أدخل هذا البيت فأستريح فيه. فلما دخله وجد جماعة من اللصوص قد قطعوا الطريق على رجل من التجار وهم يقتسمون ماله ويريدون قتله. فخاف الرجل على نفسه ومضى نحو القرية فأسند ظهره إلى حائط من حيطانها ليستريح مما حل به من الهول والإعياء، فسقط الحائط عليه فقتله. قال التاجر: صدقت وقد بلغني هذا الحديث.

ثم إن الثور المدعو شتربة انبعث من مكانه فلم يزل يدب حتى انتهى إلى مرج مخصب كثير الماء والكلإ فأقام فيه، فلم يلبث أن سمن وأمن فجعل يزأر ويخور ويرفع صوته بالخوار.

وكان قربه أسد هو ملك تلك الناحية، ومعه سباع كثيرة من الذئاب وبنات آوى والثعالب وسائر السباع. وكان الأسد مزهواً منفرداً برأيه، ورأيه غير كامل. فلما سمع الأسد خوار الثور، ولم يكن رأى ثوراً قط ولا سمع خواره، رعب وكره أن يفطن لذلك جنده فأقام بمكانه ذلك لا يبرح وجهاً. وكان ممن معه ابنا آوى يقال لأحدهما كليلة وللآخر دمنة، وكلاهما ذو أدب ودهاء. وكان دمنة شرّهما نفساً وأشدّهما تطلعاً إلى الأشياء، ولم يكن الأسد عرفهما. فقال دمنة لكليلة. ما ترى يا أخي شأن هذا الأسد مقيماً بمكان واحد لا يبرح ولا ينشط فيأتيه جنده كل يوم بطعامه؟ فقال كليلة: ما لك والمسألة عما ليس من شأنك؟ أما حالنا نحن فحال صدق ونحن بباب ملك واحد واجدين ما نأكل ولسنا من أهل الطبقة التي يتناول أهلها كلام الملوك وينظرون في أمورهم. فاسكت عن هذا واعلم أنه من تكلف من القول والفعل ما ليس من شأنه أصابه ما أصاب القرد.

قال دمنة: وكيف كان ذلك؟
كليلة ودمنة
كليلة ودمنة
عضو كريم
عضو كريم

عدد المساهمات : 15
نقاط : 334015
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 16/03/2015

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى